محاضرات في المواريث

اشارة

شابک 964-06-3130-2

پديدآورنده(شخص) خرسان ، محمدعلی

عنوان محاضرات سماحه آیه الله العظمی سید ابوالقاسم الخوئی (قدس سره ): فی المواریث

تکرار نام پديدآور بقلم محمدعلی الخرسان

مشخصات نشر قم : موسسه السبطین علیهاالسلام العالمیه ،1424 ق . =2004 م . =1382 .

مشخصات ظاهري 284ص

يادداشت عربی

يادداشت کتابنامه : ص . [273] -278 ؛ همچنین به صورت زیرنویس

موضوع ارث (فقه )

موضوع فقه جعفری -- قرن 14

شناسه افزوده (شخص) خویی ، ابوالقاسم ، 1371 -1278

شناسه افزوده (سازمان) موسسه جهانی سبطین (ع Sibtaya International Foundation(

رده کنگره BP،197،/خ45م3

رده ديوئي 297/372

شماره مدرک م83-1046

كلمة المؤسّسة

(الإرث) في الشريعة الإسلامية، يعدّ واحدا من أهمّ المحاور الاقتصادية المرتبطة بعملية (التوزيع).

و إذا كان (الإنتاج) يهدف إلى تحقيق الإشباع لحاجات الناس، و هو (الاستهلاك)، فإنّ (التوزيع) يظلّ هو المادّة المقنّنة لعمليّة الاستهلاك أو الإشباع.

لذلك يكتسب أهميّته القصوى ما دام أساسا هو المخطّط أو المقنّن للعملية المذكورة.

و قوانين الإسلام- في نطاق الإرث- تشكّل أدوات مقنّنة لتوزيع الثروة الفردية عبر شبكة (الأقارب) أو (الأرحام) .. و من المعلوم أنّ القوانين الإسلامية ترتبط من جانب بشبكة متلاحمة من الظواهر لا ينفصل بعضها عن الآخر، أي لا ينفصل ما هو اجتماعي مثلا عمّا هو اقتصادي، أو هما عمّا هو سياسي، الخ. بيد أنّها من جانب آخر- أي الظواهر في التصوّر الإسلامي- ترتبط أيضا بعلاقات (فردية) أو مؤسّسات اجتماعية يطلق عليها في مصطلح علم الاجتماع مصطلح (الجماعة الأوّليّة)، و في مقدّمتها (الأسرة) و تجاوزها إلى ما يطلق عليه مصطلح (القرابة) أو (الأرحام) حيث أنّ الإسلام في مجال قوانين الإرث حدّد نطاق (الجماعات الأوّليّة)- أي القرابة- عبر طبقات الآباء و الأمّهات و

الأجداد و الأولاد

محاضرات في المواريث، ص: 8

و الإخوة و الأعمام و الأخوال الخ .. بل تجاوز نطاق الأرحام (في حالة عدم وجودهم) إلى نطاقات اجتماعية أخرى (كالعبيد مثلا)، و من ثمّ: المؤسّسة المرجعية في حالة ما إذا لم يكن للميّت وارث.

و تتفاقم أهمّية التوارث (ليس في نطاق الإشباع المادّي أو الاقتصادي لحاجات الأقارب) بل في تحقيق التوازن الفردي و الاجتماعي من خلال توثيق العلاقات الودّية فيما بينهم. و من الواضح أنّ (الذات) الفردية- و هذا ما يؤكّده علماء النفس- تبدأ من نظرتها حول ذاتها لتنتسب إلى الأوسع من الذات لتشمل الأبوين و الأولاد و الأجداد و الأزواج؟ بحسب علاقات النسب و المواجهة المتفاوتة في القرب أو البعد. فعلاقات الأبوّة مثلا هي أقرب من (الأخوّة)، و الأخيره من (الخؤولة)؟ و هكذا. و يلاحظ: إنّ قوانين الإرث في الإسلام راعت هذه العلاقات المتدرّجة (الأقرب فالأقرب) و هو أمر يتّسق تماما مع طبيعة التركيبة البشرية.

و بهذا النمط من التوارث يتحقّق توازن فردي و اجتماعي من خلال الإشباع الاقتصادي من جانب و النفسي من جانب آخر.

و في ضوء هذه الأهميّة لعمليّة التوارث و انعكاساتها الاقتصادية و النفسية، فإنّ مؤسّستنا (مؤسّسة السبطين عليهما السّلام) أقدمت على طبع و نشر المبادئ أو الأحكام المرتبطة بالإرث، بخاصّة عند ما تقترن بممارسات فكرية تصدر عن أحد كبار فقهاء العصر الحديث (الخوئي)، حيث عالج الظاهرة المذكورة في محاضراته (بحث الخارج)، بصفة أنّ الفائدة المعرفية تتّسع حجومها لهذا الموضوع ما دام البحث أساسا يرتبط بظاهرة اقتصادية و نفسية مهمّة من جانب، و ما دام الباحث يجسّد شخصيّة مفكّرة تحدّد لنا التكييف الفقهي للظاهرة من جانب آخر.

محاضرات في المواريث، ص: 9

و ممّا يجدر

ذكره هنا أنّ (الخوئي) يتميّز بعمق ممارساته الاستدلالية و ما تتطلّبه مبادئ الممارسة الجادّة من (صناعة) لا يجيدها إلّا من أوتي ذكاء واسعا و معرفة واسعة، حيث انّ طرح المادّة و تقسيمها و تصنيفها إلى أبواب و فصول و حقول و تفريعات متنوّعة، ثمّ: طرح الأقوال و مناقشتها، و اصطناع الإشكالات و حلّها،.

الخ،. كلّ ذلك من خلال التوكّؤ على أدوات الاستدلال الرئيسية (الكتاب، السنّة، الإجماع، العقل) و الأدوات الثانويّة، (من شهرة أو أصل أو قاعدة الخ)، مضافا إلى ما تتّسم به شخصيّة (الخوئي) من تميّز في التوكّؤ على الأداتين (الأصوليّة و الرجالية) بخاصّة، حيث يتعاظم لديه استخدام تينك الأداتين بنحو ملحوظ، و هو أمر يلاحظه المتتبّع لدراساته المتنوّعة في ميادين الفقه و الأصول و التفسير الخ.

متمثّلة في مجلّدات (التنقيح) و (مصباح الفقاهة) و سواهما.

بيد أنّ الملاحظ بالنسبة إلى مادّة (الإرث) نجد ضمورا للأداتين المذكورتين (الأصولية و الرجالية)، و لعلّ ذلك يعود إلى توفّر النصوص الكتابية و الحديثيّة بالقياس إلى سواها من ظواهر الأحكام، ثمّ قلّة (التضارب) الظاهري أو الباطني بين النصوص (أي: التعارض) ثمّ ما يستتبع ذلك من قلّة التفاوت في وجهات النظر، و ما يترتّب على هذا من عدم الحاجة إلى عرض الأقوال و مناقشاتها الخ .. عدا مواقع تتناثر هنا و هناك؟ و منها مثلا: ما نجده من الأحكام المرتبطة بالتعصيب و العول، و منها (بخاصّة فيما يرتبط بالأداة (الرجالية) حيث عرف (الخوئي) مثلا بتشدّده الملحوظ في التعامل مع (السند)، حتّى أنّه ليغامر بالنصوص ليتّجه إلى أصل عملي أو قاعدة (فوقية) أو الالتفاف أساسا على نصّ غير مباشر (ما دام معتبرا) كما صنع مثلا بالنسبة إلى عدم وراثة المسلم للكافر، حيث صرّح بأنّ

ثمّة روايات

محاضرات في المواريث، ص: 10

(مستفيضة) تتحدّث صراحة عن الجانب المذكور، و لكنّه ردّها (مع أنّها مستفيضة) لكونها (ضعافا) لا يعتمد عليها، و اضطرّ إلى أن يتوكّأ؟ على نصّ معتبر لا يتحدّث مباشرة عن الموضوع، بل يشير إلى أنّ الكافر إذا أسلم قبل القسمة فالميراث له، حيث قام (الخوئي) هنا بعملية التفاف مطوّل- لا مجال للاستشهاد به الآن لاستخلاص الدلالة التي نطقت النصوص الضعيفة بها و رفضها كما قلنا. المهمّ:

إنّ ما نعتزم الإشارة إليه هو أنّ ما يتوفّر عليه (الخوئي) من الممارسات الفقهيّة (و منها: المادّة المرتبطة بالإرث) تظلّ حافلة بأهميّة عظمى، بصفة أنّها تصدر عن أحد أبرز فقهاء العصر الحديث ممّن تزعّم الحوزة العلمية في النجف قرابة نصف القرن، كما ظفر بمرجعيّة شاملة لم تتح إلّا للقليل.

و لقد أحسن عملا: تلميذه (سماحة السيد محمّد علي الخرسان) حينما دوّن لنا تقريرات استاذه في الإرث، و رتّبها على هذا النحو الذي اضطلعت به مؤسّستنا، بالإضافة إلى أنّ (الخرسان) قد أحسن عملا أيضا حينما وشّح التقريرات المذكورة بتعليقات متنوّعة، فضلا عن أنّه عرض موضوع (التعصيب) حيث طرح أدلّة القائلين به و ناقشها، و هو أمر لم تتح الفرصة لأستاذه أن يعرض لها، حيث أنّ عمره الشريف كان قد أوشك على النهاية، و هو أمر مؤسف: لعدم استكمال استاذه جميع الأبحاث المرتبطة بالإرث، ..

ختاما: نسأله أن يوفّقنا إلى المزيد من تقديم ما وسع مؤسّستنا من الخدمة لإسلامنا العظيم.

محاضرات في المواريث، ص: 11

المقدّمة

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب، و لم يجعل له عوجا، قيّما لينذر بأسا شديدا من لدنه، و يبشّر المؤمنين الّذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجرا حسنا.

و الصلاة و

السلام على أشرف رسله الّذي أرسله بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون، و على أهل بيته الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا.

أهمية التقيّد بأحكام اللّه:

لقد دأب علماء الإسلام منذ زمن الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلى يومنا هذا على التعرف على أحكام اللّه تعالى بالسؤال منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و التعلّم منه، و البحث عمّا ورد في القرآن الكريم من الأحكام و تبليغها؛ و ذلك لأنّ النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد حثّ الناس كثيرا على تعلّم القرآن و تعليمه و تعلّم الأحكام و تعليمها، كما وردت الآيات الكثيرة الآمرة بالتقيّد بأحكام اللّه، و أنّ مخالفة هذه الأحكام خروج عن الدين الحنيف و كفر باللّه العزيز، و أنّ الحكم بغير حكم اللّه إنّما هو حكم الجاهليّة، فقد قال تعالى في سورة النحل وَ لٰا تَقُولُوا لِمٰا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هٰذٰا حَلٰالٌ وَ هٰذٰا

محاضرات في المواريث، ص: 12

حَرٰامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ لٰا يُفْلِحُونَ «1» و قال تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ «2»، و قال تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ «3»، و قال تعالى:

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ «4»، و قال تعالى أَ فَحُكْمَ الْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ «5».

الجاهلية في نظر القرآن الكريم:

و بمقتضى المقابلة في الآية الأخيرة بين حكم اللّه و حكم الجاهليّة، و بمعونة الروايات المتضافرة الدالّة على المقابلة بين حكم اللّه و حكم الجاهليّة يتبيّن لنا أن للقرآن الكريم اصطلاحا خاصّا بالجاهليّة، و اصطلاح القرآن مأخوذ بلحاظ الحكم لا بلحاظ المراحل الزمنيّة، إذ أنّ الحكم حكمان: «حكم اللّه» و «حكم الجاهليّة»، فكلّ ما خالف حكم اللّه فهو

حكم الجاهليّة. و هذا لا يختصّ بمرحلة معيّنة من التأريخ، بل في جميع الأزمنة و الأمكنة كلّ حكم مخالف لما أنزل اللّه فهو حكم جاهليّ، سواء كان قبل الإسلام أم بعده إلى يوم القيامة، فقد روى ثقة الإسلام الكلينيّ قدّس سرّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال: «القضاة أربعة: ثلاثة في النار و واحد في الجنّة: رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضى بجور و هو لا

______________________________

(1) النحل: 116.

(2) المائدة: 44.

(3) المائدة: 45.

(4) المائدة: 47.

(5) المائدة: 50.

محاضرات في المواريث، ص: 13

يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة، و قال عليه السّلام: الحكم حكمان: حكم اللّه و حكم الجاهليّة، فمن أخطأ حكم اللّه حكم بحكم الجاهليّة». «1»

و روي أيضا عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه». «2»

شدّة اهتمام الشارع المقدّس بأحكام الفرائض:

و قد اهتمّ الشارع المقدّس اهتماما بالغا بأحكام الإرث فاعتنى بها عناية خاصّة و قد ذكرها تعالى في كتابه المجيد و أمر بالالتزام بها و هدّد من يخالفها فقال تبارك و تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا وَ لَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ «3» فالمتتبّع في النصوص يتّضح

______________________________

(1) الكافي 7: 407، ح 1.

(2) الكافي 7: 409، ح 2.

(3) فقد جاء في الدر المنثور

للسيوطي 2: 128، في تفسير قوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ* [النساء: 13 و 14] الآيتين: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ* يعني طاعة اللّه، يعني المواريث التي سمّى، و قوله وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يعني من لم يرض بقسم اللّه و تعدّى ما قاله .. و أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ* يعني سنّة اللّه و أمره في قسمة الميراث، وَ مَنْ يُطِعِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ* فيقسم الميراث كما أمره اللّه، و من يعص اللّه و رسوله قال: «يخالف أمره في قسمة المواريث يدخله نارا خالدا فيها، يعني من يكفر بقسمة المواريث و هم المنافقون كانوا لا يعدّون للنساء و الصبيان الصغار من الميراث نصيبا» .. و أخرج ابن أبي شيبة في المصنّف، و سعيد بن منصور عن سليمان بن موسى قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من قطع ميراثا فرضه اللّه قطع اللّه ميراثه من الجنّة» انتهى كلام السيوطي.

محاضرات في المواريث، ص: 14

له جليّا أنّ الإرث حقّ قد جعله اللّه تعالى للوارث، و قد قدّره بمقادير معيّنة، فجعل لكلّ وارث حقّه الخاصّ به بمقتضى حكمته تعالى و تدبيره، سواء كان الوارث ممّن يرث بالفرض- و هي السهام الستّة المذكورة في القرآن الكريم- أم كان الوارث ممّن يرث بالقرابة و لم يقدّر له سهم في كتاب اللّه، فالحقّ مقدّر ممّن لا تخفى عليه ذرّة في العالمين، و قد أعطى كلّ شي ء حقّه.

و لمّا كان تعالى هو المالك الحقيقي فليس لأيّ أحد التصرّف في هذه المقادير و تغييرها عمّا أمر اللّه به. و قد قال تعالى

فيها فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ* «1»، و أيّ أحد له الحقّ في تعدّي حدود اللّه و تغيير فرائضه و أحكامه؟! فإنّ ذلك لا يسوغ حتّى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقد قال تبارك و تعالى وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ.

لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمٰا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حٰاجِزِينَ «2».

فإذا كان الرسول الكريم لا يسوغ له تعدّي هذه الحدود و تجاوز أحكام اللّه فكيف بغيره من أمّته؟ فما يزيد أحد في حقّ أحد الورثة إلّا و هو ظالم لبقية الورثة حيث إنّ هذه الزيادة تقتطع من نصيب الباقين و تدفع إليه، فيكون ظلما و إجحافا في حقوقهم و تعدّيا و مخالفة للّه و للرسول، إذا لا بدّ من إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه كما حكم اللّه و أراد لينتشر العدل بين الناس و تنتظم حياتهم، و لذا فإنّه تعالى قد شدّد النكير على من يخالف أحكامه و فرائضه التي فرضها كما مرّ في قوله تعالى وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ ..* و قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي

______________________________

(1) النساء: 11.

(2) الحاقّة: 44- 47.

محاضرات في المواريث، ص: 15

بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. «1»

فنرى أنّه تعالى يتوعّد من يخالف أحكام الفرائض و يتعدّى حدوده بالخلود في نار جهنّم و العذاب المهين، لأنّه تعالى هو العالم بخفايا الأمور و حقائقها، و لا يعزب عنه شي ء في الأرض و لا في السماء. قال تعالى عٰالِمِ الْغَيْبِ لٰا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقٰالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ لٰا فِي الْأَرْضِ وَ لٰا أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ وَ لٰا أَكْبَرُ إِلّٰا فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ «2».

و قال تعالى آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ لٰا تَدْرُونَ

أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً «3» فالعلم عند اللّه، و هو الذي يرشدنا و يهدينا، و لا بدّ لنا من التعبّد بشريعته المقدّسة بدون زيادة أو نقيصة، و لا يكون ذلك إلّا بالتمسك بالقرآن الكريم و امتثال أوامر الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و لذا فإنّ النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد حثّ المسلمين حثّا شديدا على تعلّم القرآن الكريم و تعليمه، و تعلّم الأحكام و تعليمها، و تعلّم الفرائض و تعليمها، لأنّ الجهل بها يؤدي إلى الوقوع في الخطأ، و إلى الحكم بغير ما أنزل اللّه الذي هو حكم الجاهليّة، و يرجع الأمّة إلى جاهليّتها بعد تلك الجهود التي بذلها رسول اللّه، و بعد ما أنقذهم من الجهالة و حيرة الضلالة، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه الحفّاظ و صحّحوه عن عبد اللّه بن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تعلّموا القرآن و علّموه الناس، و تعلّموا الفرائض و علّموها الناس، و تعلّموا العلم و علّموه الناس، فإنّي امرئ مقبوض، و أنّ العلم سيقبض، و تظهر الفتن حتّى يختلف الاثنان في

______________________________

(1) النساء: 10.

(2) سبأ: 3.

(3) النساء: 11.

محاضرات في المواريث، ص: 16

الفريضة لا يجدان من يقضي بها». «1»

و قد وردت بهذا المضمون أحاديث اخر كثيرة تحثّ على تعلّم الفرائض و تعليمها لا يسع المقام لنقلها.

اختلاف المسلمين بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أحكام الإرث:

اشارة

إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسب ما في الحديث المتقدّم و غيره يخبرنا عمّا يقع بعده من الفتن، و اختلاف الناس، و رجوعهم إلى جاهليّتهم حتّى أنّ الاثنين يختلفان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها، كما أنّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم صرّح بأنّ العلم سيقبض من بعده.

و قد حدث ذلك بعد وفاة النبيّ مباشرة، فقد وقع الخلاف الشديد بين المسلمين في أحكام اللّه و على الأخص في الفرائض، فذهب كلّ منهم مذهبا، و تناسوا الكتاب العزيز، و حكموا بآرائهم دون مراجعته، و لا سيّما ما وقع من الخلاف بين الشيعة و غيرهم من المذاهب الإسلاميّة.

فتراهم اختلفوا في أهمّ المسائل التي تبتني عليها الفروع الكثيرة، كمسألة العول، و مسألة التعصيب و غيرهما.

فمثلا: اختلفوا فيما يزيد على الفروض هل أنّه يردّ على أصحاب الفروض أم أنّه يعطى إلى العصبات؟ فإذا خلّف الميّت بنتا واحدة فقط فإنّ لها النصف بمقتضى الآية المباركة، و أمّا النصف الباقي فلمن يعطى؟

فقد قال الشيعة أنّه يردّ عليها، فهي ترث تمام المال، نصفا بالفرض، و النصف الآخر بالقرابة.

______________________________

(1) راجع مستدرك الحاكم 4: 369، ح 9750. و قد صححه الحاكم و الذهبي، و السنن الكبرى للنسائي 4:

63. و سنن الدار قطني 4: 81- 82 مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ بدون تغيير في المعنى.

محاضرات في المواريث، ص: 17

و ذهب بقية فقهاء المذاهب إلى أنّ النصف الآخر يعطى للعصبات، و هم كلّ من ينتسب إلى الميّت عن طريق الذكور بلا واسطة أو مع الواسطة- و سيأتي الكلام في ذلك إن شاء اللّه- و هذه المسألة هي مسألة التعصيب، و قد استدل كل من الفريقين على رأيهم بأدلّة سيأتي التعرّض لها إن شاء اللّه.

فبالرغم من أنّ أحكام الفرائض مذكورة في القرآن الكريم بأحسن بيان و أحسن تفصيل، و أن النبيّ الكريم قد حثّ الأمّة على تعلّم هذه الأحكام و تعليمها نجد هذا الاختلاف العظيم بين المسلمين.

ما هو سرّ هذا الخلاف؟

اشارة

فما هو سرّ هذا الاختلاف؟ و ما

هو منشؤه؟ و أيّ الفريقين أحقّ أن يتّبع، و أيّهم أحقّ أن يطرح و لا يعتنى به؟ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ. «1»

السرّ هو جهل الخلفاء بالشريعة المقدّسة:

فإذا رجعنا إلى التأريخ و السّير نجد أنّ سرّ هذا الاختلاف الذي نشأ بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّما هو تولي من لا أهلية له منصب الخلافة و الإفتاء كما أخبرنا هو بذلك، ففي زمان الخلافة الراشدة- على حدّ تعبيرهم- وقع هذا الاختلاف، و تمزّقت كلمة الأمّة، و غصبت الحقوق، و حكم بغير ما أنزل اللّه، فإذا ألقينا نظرة إلى كتب الحديث و الفقه و كتب السير نجد أنّ جذور الخلاف و الظلم ممتدّة من ذلك الحين، فقد تقمّص منصب الخلافة بعد رحيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أجهل الناس بهذه الأحكام

______________________________

(1) الأنفال: 42.

محاضرات في المواريث، ص: 18

و بكتاب اللّه، فكانوا كلّما سئلوا عن حكم رجعوا إلى غيرهم ليسألوهم عمّا حفظوه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في هذه المسألة أو تلك، مع أن المسألة مبيّنة في كتاب اللّه العزيز بأوضح وجه، و قد أجابهم هؤلاء و رووا عن رسول اللّه افتراء عليه ما يخالف نصّ القرآن الكريم. و هذا ما أخبرنا به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما علّمه اللّه تعالى بذلك، فهو الذي أخبر بأنّ العلم سيقبض من بعده و تحدث الفتن، و أنّه يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يقضي بها.

و إليك نموذجا من الأحاديث التي نقلها الحفّاظ و المحدّثون ممّا تدلّ على اختلاف الناس في الفرائض بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم و هو إنّما يكشف عن جهل اولئك الغاصبين لمنصب الخلافة، و عدم معرفتهم بأحكام اللّه تعالى و فرائضه التي قد بيّنها في القرآن الكريم، فأدّى ذلك إلى ما وقع فيه المسلمون من اختلاف الكلمة و التمزّق و التشرذم.

فقد روي عن قبيصة بن ذؤيب، قال: «جاءت الجدّة إلى أبي بكر بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّ لي حقّا: إن ابن ابن أو ابن ابنة لي مات؟ قال: ما علمت لك في كتاب اللّه حقّا، و لا سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه شيئا، و سأسأل الناس، فسألهم، فشهد المغيرة بن شعبة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعطاها السدس، قال: من سمع ذلك معك؟ فشهد محمّد بن مسلمة، و أعطاها أبو بكر السدس». «1»

______________________________

(1) راجع الصواعق المحرقة: 35. و مستدرك الحاكم و بذيله التلخيص 4: 376، ح 7978، و قد صححه الحاكم و الذهبي على شرط الشيخين. و سنن ابن ماجه 2: 163. و أخرجه مالك في الموطّأ 2: 513، ح 4، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ و زاد فيه: «ثم جاءت الجدّة الأخرى إلى عمر بن الخطاب تسأله ميراثها، فقال لها: مالك في كتاب اللّه شي ء و ما كان القضاء الذي قضى به إلّا لغيرك، و ما أنا بزائد في الفرائض شيئا، و لكنه ذلك السدس، فإن اجتمعتما فهو بينكما، و أيتكما خلت به فهو لها».

محاضرات في المواريث، ص: 19

و قال ابن حجر في الصواعق المحرقة «1» (و أخرج) الدار قطني عن القاسم بن محمّد: «إنّ جدّتين أتتا أبا بكر تطلبان ميراثهما أمّ أمّ،

و أمّ أب، فأعطى الميراث أمّ الأمّ، فقال له عبد الرحمن بن سهل الأنصاريّ البدريّ: أعطيت التي لو أنّها ماتت لم ترثها، فقسّمه بينهما» فنجد أنّ الخليفة هنا قد أخطأ مرّتين، فإنّ أمّ الأمّ تأخذ نصيب ابنتها، و هو الثلث، و أمّ الأب تأخذ الثلثين نصيب ابنها، فلا تعطى إحداهما دون الأخرى كما صنع أوّلا، و لا يقسّم بينهما بالسوية كما صنعه ثانيا.

و نظرة في هذين الحديثين تكشف لك أوّلا: أنّ الخليفة يجهل أحكام اللّه و فرائضه، فهو لا يعلم ما هو حقّ الجدّة إذا مات حفيدها أو حفيدتها، فيبقى يسأل هذا و ذاك ليرووا له ما حفظوه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيحكم على طبق روايتهم.

و قد تختلف الرواية عن رسول اللّه، أو أنّه لا يوجد من سمع الحكم من رسول اللّه، و هذه هي المصيبة العظمى حيث يبقى الخليفة حيران لا يدري ما يفعل، و بأيّ الأقوال يأخذ و أيّها يدع.

و ثانيا: يأتي الكلام في المغيرة الّذي اعتمد عليه الخليفة في نقل الحديث و الشهادة، و أمر المغيرة معلوم من النفاق و الفسق.

و ثالثا: الحكم الذي نسبوه إلى رسول اللّه و أفتى بموجبه الخليفة فإنّه مخالف لما أنزل اللّه تعالى، فلم يفرض للجدّة فريضة، و إنّما فرض السدس للأمّ مع وجود الأخوة أو الأولاد- على تفصيل مذكور في محله- و أمّا الجدّة فهي إنّما ترث بالقرابة، و لا فريضة لها. و قد قال تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ

______________________________

(1) الصواعق: 35.

محاضرات في المواريث، ص: 20

، «1»، و قال تعالى وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا

وَ لَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ «2»، و لا أدري أين موقع الخليفة من هاتين الآيتين بعد الحكم بغير علم و بغير ما أنزل اللّه؟! و عن الشعبيّ، سئل أبو بكر (رض) عن الكلالة، فقال: إنّي سأقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن اللّه، و إن يك خطأ فمنّي و من الشيطان: أراه ما خلا الولد و الوالد. فلمّا استخلف عمر (رض) قال: إنّي لأستحيي اللّه أن أردّ شيئا قاله أبو بكر». «3»

و السؤال هنا أين كان الخليفة من قوله تعالى وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «4»، و قوله تعالى وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ. لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ؟. «5»

كيف أفتى الخليفة برأيه و تقوّل على اللّه و اقتفى ما ليس له به علم، مع أنّه تعالى ينزّه نبيّه عن هذه الأمور، و ينهاه عنها، و يهدّده على المخالفة؟

ثمّ يأتي السؤال عن الثاني الذي عرف من صاحبه أنّه أفتى برأيه، و اقتفى ما ليس له به علم و لا حجّة له من اللّه، و هو لا يدري أنّ ما حكم به مطابق لحكم اللّه أم أنّه من حكم الشيطان الرجيم، فكان الأجدر بعمر أن يستحيي من اللّه قبل أن يستحيي من ردّ قول صاحبه الذي هو من رأي الشيطان، و قد قال تعالى

______________________________

(1) المائدة: 44.

(2) النساء: 14.

(3) راجع سنن الدارميّ 3: 365. و السنن الكبرى للبيهقيّ 6: 223.

(4) الأسراء: 36.

(5) الحاقة: 44- 46.

محاضرات في المواريث، ص: 21

إِنَّ الشَّيْطٰانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. «1»

هذا مع أنّ مسألة الكلالة من أوضح المسائل الّتي بيّنها اللّه تعالى في كتابه الكريم

بأبلغ و أجلى بيان في آيتين من سورة النساء: في الآية 12 الّتي ذكر فيها كلالة الامّ، و الآية الأخيرة من سورة النساء الّتي عبّر عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بآية (الصيف)، و قد ذكر فيها كلالة الأبوين أو الأب فقط، و مع ذلك فقد جهلوا الكلالة و لم يعرفوها، و كثر الاختلاف فيها بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقد فسّروها بتفاسير كثيرة، كلّ يقول فيها بحسب ذوقه، و بما تشتهيه نفسه، فمنهم من قال: الكلالة (من ليس له والد و لا ولد)، و قيل: إنّها (من سوى الوالد) أو (من سوى الوالد و ولد الولد) أو (من سوى الولد)، أو أنّها (الاخوة)، أو الكلالة: هي (المال). و قيل:

(الفريضة). و قيل: (بنو العمّ و نحوهم). و قيل: (العصبات و إن بعدوا). «2»

و عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: إنّ عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة فذكر نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذكر أبا بكر فقال: ثمّ إنّي لا أدع بعدي شيئا أهمّ عندي من الكلالة، ما راجعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في شي ء ما راجعته في الكلالة، و لا أغلظ لي في شي ء ما أغلظ لي فيه حتّى طعن بإصبعه في صدري، و قال: «يا عمر ألا يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟! ..». «3»

و أخرج ابن راهويه و ابن مردويه، عن عمر: أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف تورث الكلالة؟ فأنزل اللّه يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّٰهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلٰالَةِ .. الخ

______________________________

(1) فاطر: 6.

(2) راجع فتح

الباري 8: 268. و أحكام القرآن للجصّاص 3: 16، و ما بعدها.

(3) راجع صحيح مسلم كتاب الفرائض 5: 61. و مسند أحمد 1: 48. و سنن ابن ماجه 2: 163. و أحكام القرآن للجصاص 3: 18. و سنن البيهقي 6: 224. و 8: 150. و تفسير القرطبي 6: 29.

محاضرات في المواريث، ص: 22

فكان عمر لم يفهم، فقال لحفصة: إذا رأيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طيب نفس فسليه عنها، فرأت منه طيب نفس فسألته، فقال: «أبوك ذكر لك هذا؟ ما أرى أباك يعلمها». فكان عمر يقول: ما أراني أعلمها و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما قال. «1»

و أخرج ابن جرير، عن الحسن بن مسروق، عن أبيه، قال: سألت عمر- و هو يخطب الناس- عن ذي قرابة لي ورث كلالة، فقال: الكلالة الكلالة الكلالة، و أخذ بلحيته، ثمّ قال: و اللّه لإن أعلمها أحبّ إلي من أن يكون لي ما على الأرض من شي ء، سألت عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «أ لم تسمع الآية الّتي انزلت في الصيف؟

فأعادها ثلاث مرات». «2»

و أخرج عبد الرزاق و ابن جرير و ابن المنذر، عن ابن سيرين قال: كان عمر بن الخطّاب إذا قرأ يُبَيِّنُ اللّٰهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا قال: «اللهم من بيّنت له الكلالة فلم تتبيّن لي» «3» و أخرج ابن أبي شيبة الدارمي و ابن جرير، عن أبي الخير: أن رجلا سأل عقبة بن عامر عن الكلالة، فقال: «ألا تعجبون من هذا يسألني عن الكلالة، و ما أعضل بأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شي ء

ما أعضلت بهم الكلالة! «4» و لذا فقد قال ابن حجر في فتح الباري: (لكثرة الاختلاف في الكلالة صحّ عن عمر أنّه قال: لم أقل في الكلالة شيئا). «5»

و كأنّه يرى أنّ في هذا عذرا للخليفة بأن يكون جاهلا بحكم قد بيّنه اللّه تعالى

______________________________

(1) الدر المنثور 2: 249.

(2) الدر المنثور 2: 251.

(3) الدر المنثور 2: 252.

(4) الدر المنثور 2: 250.

(5) فتح الباري 8: 268.

محاضرات في المواريث، ص: 23

في كتابه العزيز بأوضح بيان، و لم يدع فيه غموضا، كما في الآية الأخيرة من سورة النساء. «1»

فمع جلاء الأمر و وضوحه، و قد فصّله تبارك و تعالى بما لا مزيد عليه ترى القوم حائرين تائهين قد ضلوا السبيل لا يدرون ما يصنعون، مع أنّه تعالى قال في آخر الآية يُبَيِّنُ اللّٰهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا و قد ضلّوا و عموا و أضلّوا، و وقع ذلك منهم كثيرا مع قرب عهدهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و القرآن بين أيديهم.

و قد روى الخطّابي، عن هزيل بن شرحبيل الأوديّ، قال: جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري و سلمان بن ربيعة فسألهما عن ابنة و ابنة ابن و اخت لأب و أمّ، فقالا: لابنته النصف و للأخت من الأب و الأمّ النصف، و لم يورثا ابنة الابن شيئا و ائت ابن مسعود فإنّه سيتابعنا، فأتاه الرجل فسأله و أخبره بقولهما، فقال: لقد ضللت إذا و ما أنا من المهتدين، و لكنّي أقضي فيها بقضاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لابنته النصف، و لابنة الابن سهم تكملة الثلثين، و ما بقي فللأخت من الأب و الأمّ.

قال الخطّابيّ في معالم السنن في شرح هذا

الحديث:

قال الشيخ: في هذا بيان أنّ الأخوات مع البنات عصبة، و هو قول جماعة الصحابة و التابعين و عامّة فقهاء الأمصار إلّا ابن عباس رضى اللّه عنه فإنّه قد خالف عامّة الصحابة في ذلك، و كان يقول في رجل مات و ترك ابنة و اختا لأبيه و أمّه: أنّ النصف لابنة، و ليس للأخت شي ء.

و قيل له: إنّ عمر بن الخطّاب (رض) قضى بخلاف ذلك: جعل للأخت النصف و للابنة النصف، فقال: أهم أعلم أم اللّه؟! يريد قوله سبحانه

______________________________

(1) النساء: 176.

محاضرات في المواريث، ص: 24

إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ فإنّما جعل للأخت الميراث بشرط عدم الولد.

و روي عنه أنّه كان يقول: «وددت أنّي و هؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن، ثمّ نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين». «1»

فهذا ابن عباس تلميذ عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام أخذ أحكام اللّه من الكتاب العزيز كما علّمه استاذه سيّد المتّقين باب مدينة علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو لا يحكم إلّا بما جاء في كتاب اللّه، فلا يحكم بحكم الجاهليّة و لا يفتري على اللّه الكذب، بل يأخذ الحكم من منهله العذب، و يبيّنه للناس من دون تردّد، و لذا نراه حاضرا للمباهلة مع من يخالفه، بخلاف القوم الذين أفتوا بغير علم و لا حجّة من اللّه، فإنّا إذا لا حظنا هذا الحديث الّذي رواه هزيل نجد التناقض في قضيّة واحدة بين حكم أبي موسى الأشعري و سلمان بن ربيعة و حكم ابن مسعود، مع أنّهم كلّهم أخطئوا حكم اللّه و حكموا بغير ما أنزل اللّه بالرغم من وجود الحكم

في كتاب اللّه، قد بيّنه تعالى واضحا جليّا فيصدق هنا قوله تعالى أَ فَحُكْمَ الْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. «2»

و عن الحكم بن مسعود الثقفي، قال: قضى عمر بن الخطّاب في امرأة توفّيت، و تركت زوجها و أمها، و إخوتها لأمّها، و اخوتها لأبيها و أمّها، فأشرك عمر بين الاخوة للأمّ و الاخوة للأب و الامّ في الثلث، فقال له رجل: إنّك لم تشرك بينهما عام

______________________________

(1) راجع معالم السنن شرح سنن أبي داود 4: 87، ح 1289. و أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 371، ح 7958، و قد صححه الحاكم و الذهبي على شرط الشيخين. و أخرجه البخاريّ في صحيحه 8: 6، باب ميراث ابنة الابن مع ابنة.

(2) المائدة: 50.

محاضرات في المواريث، ص: 25

كذا و كذا، فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، و هذه على ما قضيناه. «1»

و هنا يأتي السؤال أ ليس للّه تعالى أحكام ثابتة قد شرّعها وفقا لمصالح العباد؟

و هل أن اللّه تعالى قد فوّض الأمر إلى عمر يعبث في الشريعة كيف يشاء، فيوما يحكم كذا و يوما آخر يحكم بحكم مناقض للأوّل؟

أ ليس هنا حكم للّه يجب اتّباعه و قانون مطّرد في الإسلام لا بدّ من الالتزام به؟! و عن عبيدة السلمانيّ، قال: لقد حفظت من عمر بن الخطّاب في الجدّ مائة قضيّة مختلفة كلّها ينقض بعضها بعضا. «2»

و قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: (و كان عمر يفتي كثيرا بالحكم ثمّ ينقضه و يفتي بضدّه و خلافه. قضى في الجدّ مع الاخوة قضايا كثيرة مختلفة، ثمّ خاف من الحكم في هذه المسألة فقال: من أراد أن يقتحم جراثيم جهنّم فليقل

في الجدّ برأيه.

و قال مرة: لا يبلغني أنّ امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبيّ إلّا ارتجعت ذلك منها، فقالت له امرأة: ما جعل اللّه لك ذلك، إنّه تعالى قال وَ آتَيْتُمْ إِحْدٰاهُنَّ قِنْطٰاراً فَلٰا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً فقال: كلّ الناس أفقه من عمر حتّى ربّات الحجال، ألا تعجبون من إمام أخطأ و امرأة أصابت، فاضلت إمامكم ففضلته! و مرّ يوما بشابّ من فتيان الأنصار، و هو ظمآن، فاستسقاه فجدح له ماء

______________________________

(1) كنز العمال 11: 25، ح 30481. أخرجه عن عبد الرزاق في الجامع، و ابن أبي شيبة. و عن البيهقي في السنن الكبرى 6: 255. و الدارمي في سننه 1: 154.

(2) كنز العمال 11: 58، ح 30613 نقله عن ابن أبي شيبة. و عن البيهقي في السنن الكبرى 6: 245. و عن عبد الرزاق في الجامع.

محاضرات في المواريث، ص: 26

بعسل فلم يشربه، و قال: إنّ اللّه تعالى يقول أَذْهَبْتُمْ طَيِّبٰاتِكُمْ فِي حَيٰاتِكُمُ الدُّنْيٰا، فقال له الفتى: يا أمير المؤمنين إنّها ليست لك و لا لأحد من هذه القبيلة، اقرأ ما قبلها وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النّٰارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبٰاتِكُمْ فِي حَيٰاتِكُمُ الدُّنْيٰا.

فقال عمر: كلّ الناس أفقه من عمر! و قيل: إنّ عمر كان يعسّ بالليل، فسمع صوت رجل و امرأة في بيت، فارتاب، فتسوّر الحائط، فوجد امرأة و رجلا و عندهما زقّ خمر، فقال: يا عدوّ اللّه أكنت ترى أن اللّه يسترك و أنت على معصيته! قال: يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث: قال اللّه تعالى وَ لٰا تَجَسَّسُوا و قد تجسست، و قال وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰابِهٰا و

قد تسوّرت، و قال فَإِذٰا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا و ما سلمت! و قال: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنا محرّمهما و معاقب عليهما:

متعة النساء، و متعة الحجّ.

و هذا الكلام و إن كان ظاهره منكرا فله عندنا مخرج و تأويل، و قد ذكره أصحابنا الفقهاء.

و كان في أخلاق عمر و ألفاظه جفاء و عنجهيّة ظاهرة، يحسبه السامع لها أنّه أراد بها ما لم يكن قد أراد، و يتوهّم من تحكى له أنّه قصد بها ظاهرا ما لم يقصده، فمنها: الكلمة التي قالها في مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [1]، و معاذ اللّه أن يقصد بها

______________________________

[1] الكلمة الّتي قالها: هي نسبة الهجر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد حاولوا التستّر على صاحبهم فحرّفوا الحديث

محاضرات في المواريث، ص: 27

ظاهرها! و لكنّه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته، و لم يتحفّظ منها.

و كان الأحسن أن يقول: «مغمور» أو «مغلوب بالمرض» و حاشاه أن يعني بها غير ذلك! و لجفاة الأعراب من هذا الفن كثير، سمع سليمان بن عبد الملك أعرابيا يقول في سنة قحط:

ربّ العباد ما لنا و مالكا قد كنت تسقينا فما بدا لكا

أنزل علينا القطر لا أبا لكا

فقال سليمان: أشهد أنّه لا أب له و لا صاحبة و لا ولد، فأخرجه أحسن مخرج.

و على نحو هذا يحتمل كلامه في صلح الحديبيّة لمّا قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ لم تقل لنا:

ستدخلونها في ألفاظ نكره حكايتها، حتّى شكاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أبي بكر، و حتّى

قال له أبو بكر: الزم بغرزه فو اللّه إنّه لرسول اللّه.

و عمر هو الذي أغلظ على جبلة بن الأيهم حتّى اضطرّه إلى مفارقة دار الهجرة، بل مفارقة دار الإسلام كلّها، و عاد مرتدّا داخلا في دين النصرانيّة لأجل

______________________________

كما هو دأبهم- و حذفوا قوله: (إنّه ليهجر) كما هو مثبت في الطبعة القديمة من صحيح البخاري، فوضعوا مكانها «إن النبيّ قد غلب عليه الوجع» في الطبعات الحديثة.

إلّا أن المتأمل في هذه الرواية يتّضح له جليّا أنّ عمر مع حزبه قد فرضوا رقابة شديدة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله محاولين منعه من الإدلاء بوصيّته، خوفا من خروج الأمر من أيديهم، و إلّا فما معنى الاختلاف في تلك الساعة: فمنهم من يقول: (قرّبوا يكتب لكم رسول اللّه كتابا لن تضلّوا بعده) و منهم من يقول: (القول ما قال عمر)! كيف يقدّم قول عمر على قول رسول اللّه؟! و هذا ممّا أدّى إلى انزعاج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و طردهم من مجلسه بقوله: «قوموا عنّي». و لأجل ذلك كان ابن عباس رضي اللّه عنه يتأسّف و يتحسّر، و يقول: (إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم و لغطهم) راجع صحيح البخاري 7: 9، (باب قول المريض: قوموا عنّي). و 5: 137 (باب مرض النبيّ و وفاته).

محاضرات في المواريث، ص: 28

لطمة لطمها .. إلخ» «1» انتهى ما أردنا نقله من شرح ابن أبي الحديد.

و قد جمع العلّامة المحقّق الأميني في كتابه (الغدير) الجزء السادس، العشرات من هذه القضايا و أمثالها في فصل عنوانه: (نوادر الأثر في علم عمر)

فقد نقل هذه القضايا عن الحفاظ و المحقّقين من العامّة، من كتبهم المعتبرة، فراجعه لتطّلع على مبلغ هذا الخليفة من العلم و التعقّل.

و إذا تأمّلت في عبارات ابن أبي الحديد تجد أن هذا العالم الكبير يترك وجدانه و مروءته و يتمسّك بالعصبيّة الجاهليّة، و يدافع عن الخليفة، و يوجّه هفواته، و يحملها على خلاف واقعها، ليتستّر على جهل الخليفة و ضعف إيمانه بإخراج هذه القضايا على خلاف ظاهرها، و تأويلها.

و لا أدري ما هو الدليل على لزوم هذا التأويل و التمحّل، و إخفاء الحقائق، و إظهار الباطل بمظهر الحقّ، و التمويه على العامّة؟ أ ليس هذا من النفاق.

إنّ اللّه تعالى يريد أن يحقّ الحقّ، و يدحض الباطل، و هؤلاء يريدون أن يلبسوا الباطل لباس الحقّ، و يظهروه على خلاف حقيقته، ليورّطوا الناس و يظلوهم، و إلّا فكم قضيّة من هذه القضايا، و كم هفوة من هذه الهفوات يمكن توجيهها و تأويلها، فقد (اتّسع الفتق على الراتق) فكلّما أوّل خطأ من أخطائه ظهر خطأ آخر أعظم منه، فهل هو خطأ واحد أم اثنان أم عشرة أم ألف؟

رجل قضّى حياته بالأخطاء و الهفوات فما ذا تصلح منه و ما ذا تؤوّل؟! فهو ذلك الجلف الجافي، ذو الطبع الجاف و العنجهيّة الجاهلية الذي كان لا يتأدّب مع رسول اللّه، و يجابه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتلك الكلمات القاسية الّتي تكشف عن سوء اعتقاده،

______________________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 1: 141، و ما بعدها.

محاضرات في المواريث، ص: 29

و عدم إيمانه بالرسالة المقدّسة، كما في قوله الّذي قاله في مرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد رأيتم أنّ ابن أبي الحديد

يستحي من التصريح بكلمات الخليفة، ثمّ يقول: (و حاشاه أن يعني بها غير ذلك) و لا أدري ما هو المبرّر لهذا التوجيه و الاعتذار عن الخليفة، مع أنّ الخليفة نفسه قد ألقى جلباب الحياء و تجاسر، و لم يكترث، و نحن نقول حاشاه أن يقصد ذلك.

و إذا اعتذر عنه في هذا المقام فما هو توجيهه للألفاظ الّتي كره ابن أبي الحديد حكايتها و الّتي قالها في صلح الحديبيّة ممّا أدّى إلى إزعاج النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و شكايته عند أبي بكر.

و إذا كان يمكن لسليمان بن عبد الملك أن يؤوّل كلام أعرابي بوّال على عقبيه، و يخرجه مخرجا حسنا فهذا لا يمكن أن يكون بالنسبة إلى من ادّعى خلافة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تقمّص هذا المنصب العظيم. و هل يليق بخليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يكون بهذه المنصب من الحماقة، و سوء الخلق، و الجهل بكتاب اللّه و أحكامه؟!! لا أدري ما ذا يجيب المعتذرون عن الخليفة في هذا المقام، و كيف يوجّهون؟! خليفة يجهل بكتاب اللّه، و يسأل عن مسألة شرعيّة لا يستطيع الإجابة عليها، و يبقى يلتمس الجواب من هذا و ذاك لينقذوه من جهله، و إذا تكلّم ظهر جهله، و افتضح، و ردّ عليه حتّى النساء و الشبّان، و هو الذي تسوّر بيت الناس و دخل عليهم بدون استئذان، و احتجّ عليه صاحب البيت، فتلجلج و لم يقدر على إجابته، و إذا حكم بين الناس جار و أجحف، و كم و كم أنقذه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في قضاياه و أحكامه، حتّى أنّه

تواترت عنه كلماته المعروفة، مثل قوله: (لا أبقاني اللّه لمعضلة ليس لها أبو الحسن) و غير هذه العبارة من التعبيرات الّتي تعرب عن جهله

محاضرات في المواريث، ص: 30

و احتياجه إلى من يوجّهه و يعلّمه، و إلّا فهو ذلك الرجل الذي يحكم بدون رويّة، و لذا نرى التناقض في أحكامه، فيبلغ التناقض في مسألة واحدة إلى مائة قول، كلّ منها ينقض الآخر، فهل يعقل أن تكون هذه الأقوال كلّها موافقة للواقع؟! أو أنّ الواقع يتغيّر و يتبدّل حسب ما يرتأيه الخليفة؟! و إذا كان الحقّ واحدا لا يتبدّل و لا يتغيّر فلم خالف الواقع في بقية الموارد؟ و ما هو عذره عند اللّه عند ما يحكم بغير ما أنزل اللّه؟!! هذا و قد شهد الخليفة على نفسه في خطبته المشهورة الّتي خطبها بالجابية أنّه لا يعرف غير جباية الأموال و خزنها، أمّا معرفة القرآن الكريم، و معرفة أحكام اللّه و فرائضه فقد أرجع فيها إلى غيره، و إليك نص الخطبة:

عن عليّ بن رباح اللّخميّ، قال: إنّ عمر بن الخطّاب خطب الناس، فقال:

(من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيّ بن كعب، و من أراد أن يسأل عن الحلال و الحرام فليأت معاذ بن جبل، و من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، و من أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإنّي له خازن) و في لفظ آخر: (فإنّ اللّه تعالى جعلني خازنا و قاسما). «1»

و لا أدري كيف نوجّه هذه التصريحات و الاعترافات، و كيف نخرجها على وجه حسن؟! ما هو عذر المدافعين عن الخليفة بعد اعترافه بأنّه لا يحسن إلّا جباية الأموال و خزنها؟! أمّا غير ذلك من معرفة الكتاب

العزيز، و معرفة الحلال و الحرام، و معرفة الفرائض، فكل ذلك ليس من شئون الخليفة، و ليس له فيها أيّ نظر، بل المرجع فيها غيره ممّن عيّنهم لذلك. و إن أجاب عن مسألة فقد تقدّمت نماذج من

______________________________

(1) راجع كتاب الغدير 6: 229 فقد نقل هذه الخطبة عن مصادر معتمدة بأسانيد معتبرة.

محاضرات في المواريث، ص: 31

إجاباته المخالفة لما ثبت من كتاب اللّه و سنّة نبيه.

هذا نزر يسير من أعمال و أقوال الخليفتين الأوّل و الثاني ممّا يدلّ على مبلغ علمهما و اجتهادهما، و لا يسع المقام لذكر المزيد من ذلك، بل نكتفي بهذا المقدار.

و أمّا بالنسبة إلى الخليفة الثالث فأمره معلوم، حيث أنّه لم تسلّم إليه مقاليد الامور إلّا بعد تعهّده بالالتزام بسيرة الشيخين الّتي رفضها عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، ففي يوم الشورى قال له عبد الرحمن بن عوف: ابايعك على كتاب اللّه و سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سيرة الشيخين: أبي بكر و عمر، فقال عليه السّلام: «بل على كتاب اللّه و سنّة رسوله و اجتهاد رأيي» فقد عرض عليه سيرة الشيخين ثلاث مرّات و رفضها عليه السّلام، و عرضها على عثمان فقبلها في المرّات الثلاثة. «1»

و في رفضه لها الدلالة الواضحة على بطلانها، إذ أنّ «عليّ مع الحقّ، و الحقّ مع علي، و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» «2» فكلّ مرفوض من قبل الحقّ فهو باطل بلا إشكال، لأنّ الحقّ و الباطل ضدّان لا ثالث لهما، فعثمان الّذي تمّت بيعته بشرط العمل بسيرة الشيخين كيف يمكنه التخطّي عنها و مخالفتها؟ فهو يعمل بها حتّى إذا علم بخطئها، و مخالفتها لكتاب اللّه و سنّة

نبيّه.

فعن ابن عباس أنّه دخل على عثمان بن عفّان، فقال: إنّ الأخوين لا يردّان الامّ عن الثلث؟! قال اللّه عزّ و جلّ فَإِنْ كٰانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ فالأخوان بلسان قومك ليسا بإخوة؟! فقال عثمان: لا أستطيع أن أردّ ما كان قبلي، و مضى في الأمصار، و توارثت به الناس. «3»

______________________________

(1) راجع شرح ابن أبي الحديد قصّة الشورى 1: 144 و ما بعدها.

(2) راجع ص 38 و ما بعدها من هذه المقدّمة حول حديث (علي مع الحقّ).

(3) كنز العمال 11: 34- 35، 30517. نقله عن ابن جرير. و الحاكم في المستدرك 4: 372، ح 7960.

و البيهقي في سننه، و قد صححه الحاكم و الذهبي.

محاضرات في المواريث، ص: 32

فعثمان لا يستطيع أن يرجع إلى الصواب أو أن يصحّح أخطاء سلفه، فهو متمسّك بأخطاء سلفه و إن علم بأنّها مخالفة لصريح القرآن الكريم، فالقاعدة عند الخليفة الثالث: أنه إذا عارض القرآن سيرة الشيخين يطرح القرآن، و يعمل بتلك السيرة، فهي في نظره أهمّ من الكتاب و السنّة.

هذا نزر قليل ممّا ورد من سيرة الثلاثة، و قد نقلنا جميع ذلك من كتب العامّة المتمسّكين بهم، و لم نأت بشي ء من عندنا، فهذه هي سيرتهم بعد رحلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد أخبرنا هو بوقوع الفتن بعده، و أنّ العلم سيقبض. و قد وقع كلّ ذلك كما أخبر، و صدق اللّه و رسوله، و هناك الكثير ممّا لم نتعرّض له، لعدم سعة المقام، فمن أراد المزيد فعليه بمراجعة الكتب المفصّلة الّتي أعدّت لذلك.

الغرض من نصب الخليفة بعد الرسول:

و بعد الاطّلاع على ما قدّمناه يطرح هنا سؤال لا بدّ من الإجابة عليه، و هو أنّه ما هو

الغرض من الخلافة؟ و ما هو السبب في نصب خليفة من بعد الرسول؟

فهل أنّ الغرض هو التسلّط على رقاب الناس، و التحكّم بحسب الأهواء و الآراء الّتي لا أساس لها من العلم و الدين؟

أو أن الغرض هو جباية الأموال و خزنها؟

أو أنّ اللّه تعالى كان يريد نقض ما بناه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسلّط على الامّة خلفاء جهلة ليعبثوا في الدين، و يعملوا بما تشتهيه أنفسهم؟! و هل من المعقول أنّ اللّه تبارك و تعالى الّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ*، و الّذي لا يريد ظلما بالعباد، هل من المعقول أن يقدّم المفضول على الفاضل، كما نسبوا ذلك إليه تبارك اللّه و تعالى عن ذلك علوّا كبيرا؟!

محاضرات في المواريث، ص: 33

و للإجابة عن ذلك لا بدّ لنا من الرجوع إلى القرآن الكريم، لنلتمس منه الجواب، فنتعرّف أوّلا على الغرض الذي من أجله أرسل اللّه الرسل، و أنزل الكتب، فما هي وظيفة الرسل، و ما فائدة الكتب؟ فإذا عرفنا ذلك اتّضح لنا أمر الخلافة و شروطها:

فقد قال تبارك و تعالى لَقَدْ مَنَّ اللّٰهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلٰالٍ مُبِينٍ. «1»

و قال تعالى كَمٰا أَرْسَلْنٰا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيٰاتِنٰا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ مٰا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. «2»

و قال تعالى أيضا حكاية عن إبراهيم و إسماعيل رَبَّنٰا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «3».

و قال تعالى في

سورة الجمعة هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلٰالٍ مُبِينٍ «4».

فمن هذه الآيات الكريمة و غيرها يتّضح لنا أنّ الغرض الأصلي من بعث الرسل و إنزال الكتب إنّما هو:

______________________________

(1) آل عمران: 164.

(2) البقرة: 151.

(3) البقرة: 129.

(4) الجمعة: 2.

محاضرات في المواريث، ص: 34

1- تزكية الناس.

2- تلاوة آيات اللّه تعالى على الناس.

3- تعليم الناس الكتاب.

4- تعليمهم الحكمة.

بعد أن كانوا في ضلال مبين غارقين في الجهل و الأهواء و الآراء الفاسدة.

و عليه لا بدّ من أن يكون النبيّ الذي يتحمّل هذه المسؤوليّات على مستوى عال من النزاهة و الطهارة، ليتمكّن من تزكية الناس، و على مستوى عال من الخلق، ليتمكّن من جمع الناس حوله، ليأخذوا منه معالم دينهم.

و أن يكون أعلم الناس بكتاب اللّه و أحكامه، ليتمكّن من تعليم الكتاب.

و أن يكون بأعلى مستوى من الحكمة ليعلّم الناس الحكمة، و إلّا (ففاقد الشي ء لا يعطيه) كيف بالفظّ الغليظ الجافي يوجّه الأمّة و يزكّيهم؟! و كيف بالجاهل بالكتاب يعلّمه الناس؟! و كيف بالأحمق يعلّم الحكمة؟! و كيف بالضالّ يهدي ..

و كيف و كيف .. إلخ؟! قال اللّه تعالى أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لٰا يَهِدِّي إِلّٰا أَنْ يُهْدىٰ فَمٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. «1»

فإذا كان الرسول بمقتضى العقل و المنطق لا بدّ أن يكون في أعلى مستوى من الكمالات العقليّة و النفسيّة و الخلقيّة و العلميّة، فهو أعلم الناس، و أنزه الناس، و أطهرهم و أعلاهم خلقا و منطقا .. إلى غير ذلك من صفات الكمال، إذ أنّه بدون ذلك لا يمكنه تأدية رسالته، حيث إنّه لا ينقاد

الناس له مع فقده للكمالات، و كونه

______________________________

(1) يونس: 35.

محاضرات في المواريث، ص: 35

محتاجا إلى سائر الناس لتسديده و إرشاده، و إنقاذه من الهفوات و العثرات.

فالرسول لا بدّ من تعيينه من قبل اللّه تعالى، لأنّه هو العالم بأسرار خلقه، و لا يمكن الخلق أن يشخّصوا ذلك الانسان الكامل و اللائق بهذا المنصب العظيم، قال تعالى وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشٰاءُ فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ «1» و قال تعالى وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مٰا يَشٰاءُ وَ يَخْتٰارُ مٰا كٰانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحٰانَ اللّٰهِ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ. «2»

اختيار الخليفة لا يكون إلّا من قبل اللّه تعالى:

فإذا كان الرسول لا بدّ من أن يختاره اللّه تعالى و يجتبيه، و ليس للخلق الخيرة في ذلك، فكذلك من يخلفه، و يقوم مقامه من بعده، حيث إنّ ولاية الأمر من بعد الرسول أمر ضروري، لا غنى عنه، فإنّ الدين بسعته لعامّة البشر في عامّة الأعصار و الأقطار، في جميع ما يتعلّق بالمعارف الأصليّة، و الاصول الخلقيّة، و الأحكام الفرعيّة العامّة لجميع حركات الإنسان و سكناته، في حال الانفراد و الاجتماع يحتاج إلى حافظ يحفظه حقّ الحفظ، و يكون مكمّلا للرسالة، و امتدادا لها، لئلّا يتيه الناس من بعد الرسول و يرتدّوا، فترجع إليهم جاهليّتهم.

و هذا الشخص لا بدّ من أن يكون على ذلك المستوى الّذي كان عليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جميع الجهات، لأنّه هو الذي يتحمّل أعباء مسئوليّة الرسالة و التبليغ.

و مثل هذا الشخص لا يمكن اختياره إلّا من قبل اللّه تعالى، فإنّ ولاية الأمر و الإمامة هي عهد اللّه تعالى، فبعد ما بشّر اللّه تعالى إبراهيم بقوله

______________________________

(1) آل عمران: 179.

(2) القصص: 68.

محاضرات في المواريث، ص: 36

إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً، «1»، أحبّ إبراهيم عليه السّلام أن تكون في ذريّته فقال وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي* «2» قال تعالى لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ «3» فمن هذه الآية المباركة يعلم أنّ الإمامة هي عهد اللّه، فتحتاج إلى تعيين من اللّه.

و يستفاد أيضا أنّ الظالمين ليس لهم نصيب من هذا العهد، قال تعالى وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ «4» فالأمر له تعالى هو الذي يختار، و لا يعقل أن يختار جاهلا فظّا غليظا لا يحكم آيات الكتاب ليجعله خليفة لرسوله، و قد قال تعالى إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَظْلِمُ النّٰاسَ شَيْئاً وَ لٰكِنَّ النّٰاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. «5»

و لذا فقد تظافرت الأحاديث عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في التذكير بهذا الأمر و بيانه، فمن هذه الروايات ما رواه يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «الحمد للّه الّذي لا مقدّم لما أخّر، و لا مؤخّر لما قدّم، ثمّ ضرب بإحدى يديه على الاخرى، ثمّ قال: يا أيتها الامّة المتحيّرة بعد نبيّها، لو كنتم قدّمتم من قدم اللّه، و أخّرتم من أخّر اللّه، و جعلتم الولاية و الوراثة لمن جعلها اللّه، ما عال وليّ اللّه، و لا طاش «6» سهم من فرائض اللّه، و لا اختلف اثنان في حكم اللّه، و لا تنازعت الامّة في شي ء من أمر اللّه إلّا و عند عليّ علمه من كتاب اللّه، فذوقوا وبال

______________________________

(1) البقرة: 124.

(2) البقرة: 124.

(3) البقرة: 124.

(4) الأحزاب: 36.

(5) يونس: 44.

(6) طيش السهم جوره عن سننه. لسان العرب 8: 242، «طيش».

محاضرات في المواريث، ص: 37

أمركم، و ما فرّطتم فبما قدّمت أيديكم، و ما اللّه بظلّام للعبيد». «1»

فالإمام عليه السّلام يذكّر الامّة، و يوبّخهم على سوء اختيارهم، و ما فعلوه من تقديمهم لمن أخّره اللّه باعتبار أنّه فاقد لمؤهّلات الولاية و الإمامة، من النزاهة، و حسن السابقة، و الخلق الرفيع، و غير ذلك، و تأخيرهم من قدّمه اللّه، و قد عنى بذلك نفسه (سلام اللّه عليه) من حيث أنّه أكمل الناس بعد النبيّ، فهو حائز لجميع الفضائل، و قد فاق على الجميع في علمه و ورعه و حكمته و خلقه و شجاعته، و ما إلى ذلك من المميّزات الحميدة الّتي تؤهّله لأن يكون خيرة اللّه تعالى، و نائلا لعهده.

أهل البيت هم خيرة اللّه لإمامة الخلق من بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

و لذا فإنّ اللّه تعالى قد اختاره لهذا المنصب العظيم، و أمر الناس بولايته و الاقتداء به، و الاهتداء بهديه. و قد دلّت على ذلك النصوص المتواترة من القرآن الكريم، و من أحاديث النبيّ العظيم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- كما نشير إلى ذلك قريبا- و قد شهد بذلك المخالف و المؤالف، فما أكثر ما أقرّ مخالفوه و مناوؤه بفضائله و كمالاته، بل إنّه قد حيّر عقول البشر، فصار رمز اللّه الذي لا يعرفه إلّا اللّه و رسوله، و قد ألّفت الكتب حتّى من اليهود و النصارى في الحديث عن شخصيّته، و لم يتمكّن أحد منهم أن يوفي بحقّه. فقد قال ابن أبي الحديد في مقدّمة شرحه لنهج البلاغة: (و ما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه و خصومه بالفضل، و لم يمكنهم جحد مناقبه، و لا كتمان فضائله، فقد علمت أنّه استولى بنوا أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض و غربها، و اجتهدوا بكلّ حيلة في إطفاء

نوره، و التحريض عليه، و وضع المعايب و المثالب

______________________________

(1) الوسائل 26: 78، باب 7 من أبواب موجبات الإرث، ح 5.

محاضرات في المواريث، ص: 38

له، و لعنوه على جميع المنابر، و توعّدوا مادحيه، بل حبسوهم و قتلوهم، و منعوا من رواية حديث يتضمّن له فضيلة، أو يرفع له ذكرا حتّى حظروا أن يسمّى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلّا رفعة و سمّوا، و كان كالمسك كلّما ستر انتشر عرفه، و كلّما كتم تضوّع نشره، و كالشمس لا تستر بالراح، و كضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة.

و ما أقول في رجل تعزى إليه كلّ فضيلة، و تنتهي إليه كلّ فرقة، و تتجاذبه كلّ طائفة، فهو رئيس الفضائل و ينبوعها، و أبو عذرها، و سابق مضمارها، و مجلّي حلبتها، كلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، و له اقتفى، و على مثاله احتذى ..). «1»

فهذا المدح الرائع من ابن أبي الحديد و غيره من آلاف المادحين الّذين ألّفوا الكتب في ذكر فضائله و كمالاته، إلّا أنّه يكفي عليّا عليه السّلام مدح اللّه و رسوله عن مدح المادحين، فقد نزلت الآيات الكثيرة في الكتاب العزيز الدالّة على فضله كآية المودّة، و آية التطهير، و آية التصدّق على المسكين في حال الركوع، و ما في سورة هل أتى، و غير ذلك من الآيات التي فسّرها جميع المسلمين، و ذكروا أنّها نازلة في حقّ عليّ عليه السّلام.

كما أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد ذكره في جميع المواقف، و أمّره على الجميع، و لم يؤمّر عليه أحدا، فقد روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متواترا أنّه قال: «أقضى

أمّتي عليّ» [1].

______________________________

[1] راجع ذخائر العقبى: 83، أخرجه عن أنس أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «أقضى امتي عليّ». و قال أخرجه البغوي في المصابيح في الحسان. و راجع المستدرك 3: 135. و نور الأبصار: 88. و الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 337، و ما بعدها. و ترجمة الإمام عليّ بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق 1: 29. ح 28، و 3:

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة 1: 22.

محاضرات في المواريث، ص: 39

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إن تؤمّروا عليّا- و لا أراكم فاعلين- تجدوه هاديا مهديّا، يأخذ بكم الطريق المستقيم». «1»

و قال ابن عباس حبر الامّة: (و اللّه لقد أعطي عليّ بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، و أيم اللّه لقد شارككم في العشر العاشر) «2».

و قال ابن مسعود: (قسّمت الحكمة عشرة أجزاء، فاعطي علي تسعة أجزاء، و الناس جزءا، و عليّ أعلمهم بالواحد منها). «3»

و قال سعيد بن المسيّب: (كان عمر يتعوّذ باللّه من معضلة ليس لها أبو الحسن). «4»

و قد قال عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام: «سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب اللّه، فإنّه ليس من آية إلّا و قد عرفت بليل نزلت أم نهار، و في سهل أم في جبل، و اللّه ما انزلت آية إلّا و قد علمت فيما نزلت، و أين نزلت، و على من انزلت، و إنّ ربّي وهب لي لسانا طلقا و قلبا عقولا». «5»

______________________________

44، عقد فيه فصلا بعنوان: «ما ورد عن عبد اللّه بن مسعود في مدحه عليا عليه السّلام بكونه أقضى الامّة و أفرضها و أعلمها و أفضلها». و الرياض النضرة 3: 167.

______________________________

(1) هامش الغدير 1: 32، نقلا

عن عدّة مصادر معتمدة عند العامّة، و روي بطرق مختلفة مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.

(2) الاستيعاب هامش الإصابة 3: 40. و الرياض النضرة 3: 160. و مطالب السئول: 30.

(3) كنز العمال 5: 156 و 401 نقلا عن غير واحد من الحفّاظ.

(4) أخرجه أحمد في المناقب: 97، و يوجد في الاستيعاب هامش الإصابة 3: 39، و صفة الصفوة 1:

3140. و الرياض النضرة 3: 161. و تذكرة السبط: 134. و الصواعق: 76.

(5) أسد الغابة 4: 22. و ينابيع المودة 1: 65. و مناقب الخوارزمي: 91، ح 85. و كنز العمال 2: 565، ح 4740 و 13: 165، ح 36502. و الكتاب المصنّف لابن أبي شيبة 5: 313، ح 26411. و شرح ابن أبي الحديد 6: 136. و الرياض النضرة 3: 166. و الاستيعاب هامش الإصابة 3: 40 ترجمة عليّ.

محاضرات في المواريث، ص: 40

و روي عن أحمد بن حنبل في مسنده، عن سعيد، قال: (لم يكن أحد من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «سلوني» إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام). «1»

أقول: كم فرقا بين من يتكلّم بهذه الكلمات و بين من خطب تلك الخطبة المعروفة بالجابية- الّتي مرّ ذكرها «2»- لو أنصف الحكم.

فهذا نزر قليل، بل أقل من القليل في الحديث عن علم عليّ عليه السّلام.

و أمّا شهادة النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بملازمة عليّ عليه السّلام للحقّ، و ملازمة الحقّ له، و عدم افتراقهما إلى يوم القيامة، فهو ممّا تواتر بين الفريقين. قال العلّامة المحقّق الأميني رضي اللّه عنه في كتابه (الغدير): (أمّا الحديث- يعني به قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-: «عليّ

مع الحقّ، و الحقّ مع عليّ، و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»- فأخرجه جمع من الحفّاظ و الأعلام: منهم الخطيب في التاريخ ج 14: 321. من طريق يوسف بن محمّد المؤدّب، قال: حدثنا الحسن بن أحمد بن سليمان السرّاج: حدثنا عبد السلام بن صالح: حدثنا عليّ بن هاشم بن البريد، عن أبيه، عن أبي سعيد التميمي، عن أبي ثابت مولى أبي ذرّ قال: دخلت على أمّ سلمة فرأيتها تبكي و تذكر عليّا عليه السّلام، و قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «عليّ مع الحقّ، و الحقّ مع عليّ، و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة».

و أخرج ابن مردويه في المناقب، و الديلميّ في الفردوس: أنّه لما عقر جمل عائشة، و دخلت دارا بالبصرة أتى إليها محمّد بن أبي بكر، فسلّم عليها، فلم تكلّمه، فقال لها: أنشدك اللّه أ تذكرين يوم حدثتيني عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «الحقّ لن يزال

______________________________

(1) فضائل الصحابة 2: 646، ح 1098. و ذخائر العقبى: 83. و الاستيعاب هامش الإصابة 3: 40.

و تاريخ السيوطي: 171- 185. و كنز العمّال 2: 565، ح 4740.

(2) راجع ص 30- 31 من هذه المقدّمة.

محاضرات في المواريث، ص: 41

مع عليّ، و عليّ مع الحقّ، لن يختلفا و لن يفترقا»؟ فقالت: نعم.

و روى ابن قتيبة في (الإمامة و السياسة) ج 1: 68 عن محمّد بن أبي بكر: أنّه دخل على أخته عائشة (رض) قال لها: أما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «عليّ مع الحقّ، و الحقّ مع عليّ» ثمّ خرجت تقاتليه؟!.

و روى الزمخشريّ في (ربيع

الأبرار) قال: استأذن أبو ثابت مولى عليّ عليه السّلام على أمّ سلمة (رضي اللّه عنها) فقالت: مرحبا بك يا أبا ثابت، أين طار قلبك حين طارت القلوب مطائرها؟ قال: تبع عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. قالت: وفّقت، و الذي نفسي بيده لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «عليّ مع الحقّ و القرآن، و الحقّ و القرآن مع عليّ، و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».

و بهذا اللّفظ أخرجه أخطب الخطباء الخوارزميّ في (المناقب) من طريق الحافظ ابن مردويه، و كذا شيخ الإسلام الحمويني في (فرائد السمطين) في الباب 37 من طريق الحافظين: أبي البيهقي، و الحاكم أبي عبد اللّه النيسابوري). «1»

و ممّا قدّمناه يتّضح أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام- الّذي حاز جميع الفضائل و الكمالات، و كان عارفا بآراء المتقدّمين و المتأخّرين، و عالما بجميع العلوم كلّها- «2» كان مؤيّدا و مسدّدا من قبل اللّه تعالى، و إلّا فإنّه من المحال وجود هكذا شخص بهذه المرتبة من الكمالات بدون تأييد إلهيّ، بحيث يعجز جميع الخلق من المتقدّمين و المتأخّرين من أن يجوزوا فضائله.

______________________________

(1) راجع الغدير 3: 223، و ما بعدها.

(2) قال ابن أبي الحديد في شرح الخطبة الاولى من النهج 1: 68 (و هذا يدلّ على صحّة ما يقال: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان يعرف آراء المتقدّمين و المتأخّرين، و يعلم العلوم كلّها، و ليس ذلك ببعيد من مناقبه و فضائله عليه السّلام).

محاضرات في المواريث، ص: 42

و قد قيل فيه: (إنّه نسخة فردة في الوجود). و قد شهد له القرآن المجيد بذلك في كثير من آي الذكر الحكيم، كما شهد بذلك النبيّ الكريم صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم، و قد خصّه بالمدح و الثناء الجميل في جميع مواقفه، و قد نصّ على إمامته و ولايته من بعده، و قد مرّت عليك بعض الأحاديث الّتي منها حديث ملازمة عليّ للحقّ، و ملازمة الحقّ له.

و معنى ذلك أنّه لا يقع في خطأ، و لا يخطئ الحقّ أبدا، فكلّ من خالفه و سار على خلاف نهجه، فهو باطل بمقتضى هذه الأحاديث المتواترة، إذ أنّ الحقّ و الباطل من الضدّين الّذين لا ثالث لهما، فلا واسطة بين الحقّ و الباطل، فإمّا أن يصدر من رأي عليّ و منهجه الّذي لا يفارق الحقّ، حسب قول النبيّ، فهو الحقّ، و ما عدى ذلك فهو الباطل بلا شبهة و لا ريب.

و قد تواترت الأحاديث الدالّة على نصّ الرسول على خلافة عليّ من بعده، و أنّه هو العلم الهادي للأمّة من بعد الرسول، و هو حسب الصفات الّتي فيه امتداد طبيعي للرسالة المقدّسة، إذ أنّ هذا المنصب العظيم لا يليق إلّا لمثل عليّ عليه السّلام، أمّا غيره ممّن غصبوا هذا المنصب و اجترءوا على اللّه و رسوله فقد مر عليك ما قدّمناه ممّا سجّله التأريخ من جهلهم بالدين و أحكامه، و عدم لياقتهم لهذا المنصب.

و من الأحاديث الّتي تواترت عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في إمامة عليّ من بعده حديث الغدير، و خطبته المتواترة في حجّة الوداع: عند ما وصل إلى هذا المكان (غدير خم) بعد نزول الآية يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَ اللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّٰاسِ .. «1» أمر بأن يصنع له شبه المنبر من أحداج الإبل، و

صعد و خطب الناس، فقال في ما قال: «أيّها الناس من أولى الناس

______________________________

(1) المائدة: 67.

محاضرات في المواريث، ص: 43

بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا: اللّه و رسوله أعلم، قال: «إنّ اللّه مولاي، و أنا مولى المؤمنين، و أنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، يقولها ثلاث مرّات» و في لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرّات، ثمّ قال: «اللّهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و أحبّ من أحبّه، و ابغض من أبغضه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله، و أدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب» ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزل أمين وحي اللّه بقوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي «1» الآية. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اللّه أكبر على إكمال الدين، و إتمام النعمة، و رضي الربّ برسالتي، و الولاية لعليّ من بعدي» ثمّ طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه).

و ممّن هنّأه في مقدّم الصحابة: الشيخان أبو بكر و عمر، كل منهما يقول: بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت و أمسيت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة. و قال ابن عباس: وجبت و اللّه في أعناق القوم .. إلخ. [1]

و هناك تفاصيل كثيرة، و شبهات و ردود حول قضية الغدير لا يسع المقام ذكرها، فمن أراد الاطّلاع فليراجع ما ألّف في خصوص هذه الواقعة ممّا كتبه الفريقان من السنّة و الشّيعة. [2]

______________________________

[1] راجع كتاب الغدير 1: 29- 30، و في هامش ص 34 تعرّض المؤلّف رضي اللّه عنه لما ذكره العلماء و الحفّاظ من أبناء العامّة في عدد طرق حديث الغدير، فقال:

رواه أحمد بن حنبل من أربعين طريقا، و ابن جرير من نيف و سبعين طريقا، و الجزريّ و المقري من ثمانين طريقا، و ابن عقدة من مائة و خمسين طريقا، و أبو سعيد السجستاني من مائة و عشرين طريقا، و أبو بكر الجعابي من مائة و خمس و عشرين طريقا .. إلخ.

[2] من ذلك ما ذكره ابن حجر في الصواعق المحرقة: 42، فقد جاء في جواب الشبهة الحادية عشرة قال:

(و جواب هذه الشبهة) التي هي أقوى شبههم يحتاج إلى مقدّمة و هي بيان الحديث و مخرجيه: و بيان أنه

______________________________

(1) المائدة: 3.

محاضرات في المواريث، ص: 44

و من الأحاديث المتواترة حديث «الثقلين» الّذي عيّن فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عترته للخلافة من بعده، و هم الأئمّة الاثنا عشر، أولهم عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام،

______________________________

حديث صحيح لا مرية فيه و قد أخرجه جماعة كالترمذي و النسائي و أحمد و طرقه كثيرة جدا، و من ثمّ رواه ستة عشر صحابيا، و في رواية أحمد أنه سمعه من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثلاثون صحابيا و شهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته- كما مر و سيأتي- و كثير من أسانيدها صحاح و حسان لا التفات لمن قدح في صحته، و لا لمن رده بأن عليا كان باليمن، لثبوت رجوعه منها و إدراكه الحجّ مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قول بعضهم: إن زيادة اللهم وال من والاه الخ موضوعة مردود، فقد ورد ذلك من طرق صحح الذهبي كثيرا منها».

إلّا أن ابن حجر بعد إقراره بتواتر هذا الحديث و أنّه لا مرية فيه و لا يمكن إنكاره أو الطعن فيه، دفعه

طيشه و حنقه إلى محاولة تأويله و إخراجه عن معناه تصحيحا لأعمال سلفه، و لذا فإنه قال بعد ذلك:

«قالوا: فمعنى المولى: (الأولى) أي فلعلي عليهم من الولاء ماله صلّى اللّه عليه و آله منه بدليل قوله: (أ لست أولى بكم) لا (الناصر) و إلّا لما احتاج إلى جمعهم كذلك .. الخ»، و لمزيد من التحقيق راجع كتاب (المولى في الغدير) المقتبس من كتاب الغدير للعلّامة الأميني قدّس سرّه من قبل مؤسّسة السبطين عليهما السّلام.

و هنا يتوجه السؤال إلى ابن حجر: ما هو الداعي للنبيّ الكريم الذي لا ينطق عن الهوى أن يجمع المسلمين في ذلك الظرف الخاص ليعلن عن نصرة علي لهم؟! فهل كان أحد من المسلمين يشك في نخوة علي و نصرته للإسلام و المسلمين ليعلن النبيّ عن ذلك؟! فأنت تنسب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تصرفا منافيا للعقل و المنطق لأجل تصحيح أعمال أسلافك الذين انحرفوا عن الحقّ؟! فإن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان في حجّة الوداع و هو يعلم بقرب ارتحاله إلى جنان الخلد و أن الأمة ستبقى بعده بحاجة إلى من يقوم مقامه فلا بدّ له من أن يفكر في مصير هذه الامة التي بذل كلّ غال و رخيص و تحمل ما تحمل من أجل جمعها و توحيد كلمتها، فما هي حاجة الأمة في هذا الظرف إلى الناصر ليقول لهم: إني جعلت عليا ناصرا لكم؟! الأمة في هذا الظرف بحاجة إلى القائد الموجه الذي يجمع شملها و يوحد كلمتها و يتحمل أعباء المسئولية العظمى التي تحملها النبيّ في تأدية الرسالة الإلهية من تعليم الكتاب و الحكمة و تنزيه النفوس و نحو ذلك.

فالأنسب بهذه الخطبة في ذلك الظرف

الخاص أن يكون المقصود جعل الولاية لعلي عليه السّلام و نصبه إماما، فإنّه لا شك في أن عليا عليه السّلام هو أفضل أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الإطلاق و أنّه جامع لجميع الكمالات فله الأهلية التامّة لأن تجعل له الولاية على نفوس الناس و أعراضهم و أموالهم كما كانت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لتنقاد له الأمة و تنظّم تحت لوائه. أما ما ذكره ابن حجر من النصرة فليس له أي معنى أو مناسبة إلّا تصحيح أخطاء السلف و تبرير جرائمهم.

محاضرات في المواريث، ص: 45

و أحد عشر إماما من ذريّته الطاهرة.

فقد أمرنا في هذا الحديث الشريف بالتمسك بكتاب اللّه العزيز، و بالعترة الطاهرة من بعده، و نهانا عن التقدّم عليهم أو مخالفتهم، و أخبر بأنّهم عدل القرآن، و أنّهم أعلم الناس من بعده، فمن تمسّك بهم لن يضلّ أبدا.

و إليك نصّ هذا الحديث الشريف: عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من الأرض إلى السماء، و عترتي أهل بيتي، و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما». [1]

______________________________

[1] رواه السيوطي في الجامع الصغير تحت رقم 2631 نقلا عن مسند أحمد، و عن الطبرانيّ في المعجم الكبير، كلاهما عن زيد بن ثابت، و صحّحه مع اختلاف في الألفاظ. و قد عقد الحافظ الهيثميّ فصلا في كتابه (مجمع الزوائد و منبع الفوائد) 9: 162، و ما بعدها (باب فضل أهل البيت رضي اللّه عنهم) و قد ذكر فيه حديث الثقلين، و هو

مطابق في لفظه لما في الجامع الصغير، و قال: رواه أحمد و أسناده جيد. و العلّامة المناويّ في (فيض القدير شرح الجامع الصغير) 3: 14، ح 2631، ذكر هذا الحديث و شرحه شرحا وافيا، و ممّا قاله في هذا الشرح: يعني إن ائتمرتم بأوامر كتابه، و انتهيتم بنواهيه، و اهتديتم بهدى عترتي، و اقتديتم بسيرتهم، اهتديتم فلم تضلّوا. قال القرطبي: و هذه الوصية، و هذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله و إبرارهم و توقيرهم و محبتهم، وجوب الفروض المؤكّدة الّتي لا عذر لأحد في التخلّف عنها .. ثمّ قال: «لن يفترقا» أي الكتاب و العترة، أي يستمرّا متلازمين «حتّى يردا عليّ الحوض» أي الكوثر يوم القيامة .. ثمّ قال: قال الحكيم: و المراد بعترته هنا العلماء العاملون، إذ هم الذين لا يفارقون القرآن، أمّا نحو جاهل و عالم مخلط فأجنبيّ من هذا المقام .. إلى أن قال: (تنبيه) قال الشريف: هذا الخبر يفهم وجود من يكون أهلا للتمسّك به من أهل البيت و العترة الطاهرة في كلّ زمان إلى قيام الساعة حتّى يتوجّه الحثّ المذكور إلى التمسّك به، كما أن الكتاب كذلك، فلذلك كانوا أمانا لأهل الأرض، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض.

مسند أحمد و معجم الطبراني عن زيد بن ثابت، قال الهيثميّ: رجاله موثّقون، رواه أيضا أبو يعلى بسند لا بأس به، و الحافظ عبد العزيز الأخضر.

محاضرات في المواريث، ص: 46

و قد روي هذا الحديث متواترا عند الخاصّة و العامّة بطرق عديدة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنّه قاله في مواطن متعدّدة، فإذا وجد اختلاف في ألفاظ الحديث فذلك إنّما هو من جهة تعدّد صدوره من النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد تحدّث عنه الحافظ ابن حجر في (الصواعق المحرقة)، فقال: (ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسّك طرقا كثيرة وردت عن نيف و عشرين صحابيّا، و مرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، و في بعض تلك الطرق: أنّه قال ذلك بحجّة الوداع بعرفة، و في أخرى: أنّه قاله بغدير خم، و في أخرى: أنّه قاله بالمدينة في مرضه، و قد امتلأت الحجرة بأصحابه، و في اخرى: أنّه قاله لمّا قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف.

و لا تنافي، إذ لا مانع من أنّه كرر ذلك عليهم في تلك المواطن و غيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز و العترة الطاهرة- إلى أن قال-:

ثمّ الّذين وقع الحث عليهم منهم العارفون بكتاب اللّه، و سنّة رسوله، إذ هم الّذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض. و يؤيّده الخبر السابق: «و لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم» و تميّزوا بذلك عن بقية العلماء، لأنّ اللّه أذهب عنهم الرجس، و طهّرهم تطهيرا، و شرّفهم بالكرامات الباهرة و المزايا المتكاثرة- إلى أن قال-:

و في أحاديث الحثّ على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، و لذا كانوا أمانا لأهل الأرض- كما يأتي- و يشهد لذلك الخبر السابق: «في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي»- إلى أن قال-:

ثمّ أحقّ من يتمسّك به منهم إمامهم و عالمهم عليّ ابن أبي طالب كرّم اللّه

محاضرات في المواريث، ص: 47

وجهه، لما قدّمناه من مزيد علمه، و دقائق مستنبطاته، و من ثمّ قال أبو بكر: (عليّ عترة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أي

الّذين حثّ على التمسّك بهم، فخصّه لما قلنا، و كذلك خصّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما مرّ يوم غدير خم) «1» انتهى.

و من ينظر في هذه العبارات يجد أنّ ابن حجر أوّلا: يؤكّد تواتر هذا الحديث و عدم تطرّق الشكّ أو الشبهة إلى صدوره عن النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فهو مرويّ عن نيف و عشرين صحابيّا.

و ثانيا: نجد أنّه ينفي ما يمكن أن يشتبه من وجود التنافي في الرواية، حيث إنّه نقل عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سلّم في مواطن متعدّدة.

و ثالثا: نرى أنّه يؤكّد بأن هؤلاء الّذين وقع الحثّ على التمسّك بهم هم العارفون بكتاب اللّه، و سنّة نبيّه، و أنّهم هم الّذين يصحّ القول فيهم: أنّهم لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، و أنّهم قد تميّزوا بذلك عن بقية العلماء، و يستدلّ على ذلك بآية التطهير إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً مضافا إلى ما استدلّ به من الأحاديث.

و رابعا: أنّه استدلّ بهذا الحديث الشريف على وجود الحجّة القائم عجّل اللّه تعالى فرجه، و أنّه لا بدّ من وجود متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز لا بدّ من بقائه إلى يوم القيامة.

و خامسا: أنّه ذكر أشخاصهم، و عيّنهم في آخر كلامه، حيث أنّه لا يصلح لهذا الأمر غيرهم، فيتعين أن يكونوا هم المقصودين بهذا الحديث و أمثاله ممّا صدر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: (ثمّ إنّ أحقّ من يتمسّك به منهم إمامهم و عالمهم .. إلخ).

______________________________

(1) الصواعق المحرقة: 150، و ما بعدها.

محاضرات في المواريث، ص: 48

نتيجة المطاف:

يتّضح

من مجموع ما قدّمناه: أنّ سرّ الخلاف الواقع بين المسلمين في أوضح المسائل المذكورة في الكتاب العزيز بأجلى و أوضح بيان، و ليس فيها أيّ غموض، هو مخالفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عدم التمسّك بعترته الطاهرة، الّذين حثّ على التمسّك بهم، و الأخذ عنهم في المواطن العديدة، و اغتصاب هذا المنصب العظيم منهم، من قبل اناس ليست لهم أيّ أهليّة أو خبرة، و كانوا يجهلون حتّى آيات الذكر الحكيم ممّا أدّى إلى وقوع الامّة فيما وقعت فيه من الخلافات و الظلم و الجور و الحكم بغير ما أنزل اللّه، فعادت الجاهليّة كما كانت. و كان الجدير بهم أن يتمسّكوا بكتاب اللّه العزيز، فقد قال تعالى وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ. «1»

و قال تعالى فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. «2»

فإنّه تعالى يقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتّى يحكموا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما شجر بينهم، و هذا لا يختص بزمان حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل لا يتمّ إيمان أحد، و لا يكون مؤمنا إلّا إذا حكّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالرجوع إلى وصاياه و أوامره و توجيهاته الّتي صدرت منه إلى امّته في كلّ الحالات، و في كلّ الأزمنة في حياته، و بعد وفاته إلى يوم القيامة، فمن تخلّف عن ذلك فليس بمؤمن بمقتضى هذه الآية المباركة.

______________________________

(1) الحشر: 7.

(2) النساء: 65.

محاضرات في المواريث، ص: 49

و ليت

القوم حكّموا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند ما اختلفوا بعد وفاة الرسول في سقيفة بني ساعدة و تمسّكوا بوصاياه، فهو الّذي أوصى بالعترة الطاهرة، و جعلهم عدلا للقرآن الكريم، فلو التزموا بذلك لما مني الإسلام بهذه المصيبة العظمى، و ما وقع المسلمون فيما وقعوا فيه من الفرقة و التشرذم، و تكفير بعضهم البعض.

هذا الكتاب

اشارة

و أمّا شيعة أهل البيت فقد تمسّكوا بالعروة الوثقى، و عملوا بما أمرهم اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فتمسّكوا بالكتاب و العترة الطاهرة، و أخذوا الأحكام من المنهل العذب الطاهر الّذي لا يشوبه أيّ شكّ أو شبهة، فقد اهتمّ علماؤنا بالبحث و التحقيق عن أحكام اللّه و فرائضه منذ زمان الأئمّة الطاهرين.

و قد تفضّل سماحة سيّدنا الاستاذ السيّد أبو القاسم الخوئيّ قدّس سرّه بالبحث عن مهمّات مسائل الإرث، إلّا أنّه من المؤسف جدّا أنّه لم يتيسّر له إتمام كتاب المواريث للظروف القاسية الّتي كانت تحيط به.

و نحن بعد الاستعانة باللّه نورد ما أملاه علينا في مجلس بحثه الشريف، لأهمّيّته من حيث التحقيق و عمق الأفكار، و على الخصوص ما امتاز به هذا البحث من الابتكار في الردّ على القول بالتعصيب و العول، حيث إنّه قدّس سرّه قد أجاب بأدلّة حلّيّة مستدلا بالآيات المباركة، و لم يكتف بالنقض فقط.

هذا مع تعليقنا على البحث بما تيسّر لنا راجين من المولى القدير التوفيق و السداد، فإنّه نعم المولى و نعم المعين.

كما و نرجو من الأخوة الأعزّاء تنبيهنا إن وجدوا نقصا أو اشتباها، فإنّ العصمة

محاضرات في المواريث، ص: 50

لأهلها، و نحن محتاجون إلى النصيحة و التوجيه.

أمّا عملنا في هذا البحث:

فقد كان البحث على شكل محاضرات يوميّة يلقيها سماحته على طلّاب بحثه، و نحن نكتب ما يملي علينا، و مجموع هذه المحاضرات في موضوع المواريث (36) محاضرة، بدأت من يوم 17/ ج 1/ 1407 ه، و انتهت في 21/ شعبان/ 1407 ه.

هذا، مع ما تخلّل هذه المدّة من التعطيلات الرسميّة و غير الرسميّة في الحوزة الّتي كانت تفرضها الظروف القاسية الّتي تحيط بالسيّد الاستاذ و بطلّابه.

هذا،

و كان في هذه الأبحاث كثير من التكرار و التقديم و التأخير، فتجد أنّ مطلبا متعلّقا ببحث سابق قد بحثه بعد خمسة أو أربعة أو أقل أو أكثر من الأبحاث، و هذا ممّا ألزمنا أن ندقّق في المكرّرات لحذف الزائد، و إبقاء المطالب المهمّة، و كنّا نحرص كلّ الحرص، على أن لا يفوتنا مطلب، كما و ألحقنا كلّ مطلب بمكانه المناسب له ليأتي البحث منسّقا و الأفكار متسلسلة.

هذا، و قد يجد القارئ العزيز أبحاثا خارجة عن موضوع الإرث، كالبحث عن المرتدّ من غير جهة الإرث، أو البحث عن الديات، أو البحث عن أدوار تكوّن الجنين، أو أنّه يجد أبحاثا لم تكن محلّا للابتلاء، كالبحث عن الرقّ و نحو ذلك، فقد بحثها سماحة سيّدنا الاستاذ قدّس سرّه في ضمن هذا الموضوع بالمناسبة، و إنّما أدرجناها لما فيها من المطالب المهمّة و التحقيقات العلميّة القيّمة، فإنّه و إن كان بعضها لا ينفع في مقام العمل، و البعض الآخر خارج عن موضوع البحث إلّا أنّها لا تخلو من الفائدة العلميّة.

و بعد تنسيق البحث علّقنا عليه بما تيسّر، و قدّمنا له هذه المقدّمة راجين من

محاضرات في المواريث، ص: 51

المولى العزيز أن يتقبّل منّا هذا العمل الضئيل، و أن يعفو عنا، فإنّه هو الغفور الرحيم.

و الصلاة و السلام على سيّد المرسلين، و على أهل بيته الطيّبين الطاهرين.

شكر و تقدير:

و أخيرا أتقدّم بجزيل الشكر و الاحترام إلى إخواني في مؤسّسة السبطين العالمية الذين ساهموا في إخراج الكتاب و أخصّ بالذكر أخي المؤسّس سماحة آية اللّه السيّد مرتضى الموسوي الأصفهاني الذي زاملته منذ بداية دراساتنا في الحوزة العلمية في النجف الأشرف فوجدته أخا مؤمنا ملازما للورع و التقوى مجدّا في دروسه

و أسأل الباري عزّ و جل أن يوفّقه لإدامة مشاريعه في مذهب الحقّ تحت رعاية إمام العصر الحجّة بن الحسن عجّل اللّه فرجه، راجيا من المولى دوام التوفيق لهذه المؤسّسة في تقديم الخدمات لمذهب أهل البيت الطاهر إنّه ولي قدير.

سيّد محمّد علي الخرسان 9/ جمادي الثاني/ 1421

محاضرات في المواريث، ص: 53

محاضرات سماحة آية اللّه العظمى السّيّد أبو القاسم الخوئي (قدّس سرّه) في المواريث

محاضرات في المواريث، ص: 55

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على محمّد و آله الطيبين الطاهرين، و اللّعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

لا إشكال و لا خلاف بين المسلمين، بل غير المسلمين أيضا في ثبوت الإرث في الجملة.

و قد نطق به الكتاب العزيز و السنّة أيضا، فذكر في الكتاب العزيز أحكام الميراث، و كيفيّة التقسيم، و من يرث و من لا يرث، و كذلك في الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السّلام أيضا.

و قد وقع الاختلاف في بعض الفروع بعد الاتفاق على أصل الإرث، و نتكلّم فيها إن شاء اللّه تعالى.

فالكلام يقع تارة في موجبات الإرث.

و اخرى في موانع الإرث.

و ثالثة في من يرث بحسب الطبقات و من لا يرث. [1]

______________________________

[1] من المؤسف جدّا أنّ سماحة السيّد الاستاذ لم يتيسّر له إتمام البحث فلم يتكلّم عن الأمر الثالث و كان ختام البحث بإكمال موانع الإرث.

محاضرات في المواريث، ص: 57

الفصل الأوّل: موجبات الإرث

الموجب للإرث أمران: إمّا نسب [1]، و إمّا سبب [2].

اشارة

أمّا النسب فله طبقات ثلاث يأتي الكلام عنها قريبا.

و أمّا السبب فهو منحصر في أمرين:

1- الزوجيّة:

2- الولاء [3] و هو:

أ- ولاء العتق [4].

______________________________

[1] و هو الاتّصال بالولادة بانتهاء أحد الشخصين إلى الآخر، كالأب و الابن، أو بانتهائهما إلى ثالث مع صدق النسب عرفا على

الوجه الشرعي أو ما في حكمه، فالتولّد من الزنا لا إرث به، بخلاف الشبهة و نكاح أهل الملل الفاسدة، الجواهر 39: 7.

[2] و هو الاتّصال بما عدا الولادة من ولاء أو زوجيّة (الجواهر 39: 7).

[3] الولاء: بفتح الواو، و أصله القرب و الدنو، و المراد به هنا تقرّب أحد الشخصين بالآخر على وجه يوجب الإرث بغير نسب و لا زوجية. (المسالك 13: 13).

[4] إذا تبرّع المولى بعتق عبده، و لم يتبرّأ من ضمان جريرته فمات العبد و ليس له وارث نسبيّ فإرثه للمولى المنعم، و هو المقصود بولاء العتق. راجع، الروضة البهيّة 8: 181. و مسالك الأفهام 13: 197 و ما بعدها.

محاضرات في المواريث، ص: 58

ب- ولاء ضمان الجريرة [1].

ج- ولاء الإمامة.

______________________________

[1] الجريرة بحسب اللغة هي الجناية أو الذنب، و عقد ضمان الجريرة كان في الجاهلية يقوم الضامن بموجبه بدفع ما يترتّب على المضمون من الغرامات و الدّيات و غيرها بشرط أن يكون وارثا له دون قرابته و الإسلام لم يقرّ هذا الضمان كما هو، بل أقرّ منه ضمان جريرة العبد السائبة، و هو العبد (الذي لم يعتق تبرّعا بل كان عتقه إمّا كفارة أو وفاء بنذر، أو عتق قهري) فإذا مات و لم يكن له وارث نسبي ورثه ضامن جريرته. راجع الروضة البهية 8: 181، و ما بعدها و المسالك 13: 223.

محاضرات في المواريث، ص: 59

الموجب الأوّل للإرث: النسب

اشارة

و له طبقات ثلاث: [1]:

______________________________

[1] ذكر الفقهاء قدّس سرّه هذا التقسيم على سبيل المسلّمات و لم يشيروا إلى دليله إلّا أنّ نظرة في النصوص الواردة في الإرث من الآيات و الروايات تورثنا القطع بهذا التقسيم حيث أنّها جعلت الأولويّة في الإرث للأقرب فالأقرب و أنّ الأقرب

يمنع الأبعد و يحجبه عن الإرث، مثل قوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* الأحزاب: 6، و الأنفال: 75.

و قوله تعالى يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّٰهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلٰالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ النساء: 176، فهذه الآية الكريمة علّقت إرث الأخت على عدم وجود ولد لأخيها، و إرث الأخ على عدم وجود ولد لأخته، فحيث أنّ الولد من الطبقة الاولى فهو يحجب الأخت و الأخ اللّذين هما من الطبقة الثانية. هذا.

مضافا إلى الأحاديث المستفيضة عن أهل البيت الطاهر سلام اللّه عليهم الدّالّة على ذلك أيضا منها:

ما روي عن حماد بن عثمان قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل ترك أمّه و أخاه، قال عليه السّلام: «يا شيخ تريد على الكتاب؟» قال: قلت: نعم، فقال: «كان عليّ عليه السّلام يعطي المال الأقرب فالأقرب»، قال: قلت: فالأخ لا يرث شيئا؟ قال: «قد أخبرتك أنّ عليّا عليه السّلام كان يعطي المال الأقرب فالأقرب». الوسائل 26: 105 باب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد ح 6. فهذه الرواية أعطتنا قاعدة كلّية هي أنّ (الإرث يعطى للأقرب فالأقرب) فقد حرم الأخ من الإرث، لأنّ الام أقرب فهي تحجبه. و قد دلّ على ذلك أيضا روايتا عبد الرحمن ابن الحجاج، و محمّد بن مسلم الآتيتان و غيرهما، و ما روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الخال و الخالة يرثان إذا لم يكن معهما أحد إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ*». الوسائل 26: 185 باب واحد من

أبواب ميراث الأعمام و الأخوال ح 1.

محاضرات في المواريث، ص: 60

الطبقة الاولى: الأبوان و الأولاد:

و الأولاد صنفان:

و المراد من كونهما صنفين أنّه إذا فقد الأولاد لا يرث الأبوان جميع المال، بل ينتقل إرث الأولاد إلى أولاد الأولاد، فيقومون مقامهم، و لأجل ذلك قالوا: إنّهم صنفان يعني مع عدم وجود أحد الصنفين- و هم الأولاد- لا ينحصر الإرث بالأبوين، بحيث يكون جميع المال للأبوين، بل يقوم أولاد الأولاد، مقام الأولاد فيشتركون مع جدّهم أو جدّتهم أو هما معا. [1]

الطبقة الثانية: الأخوة و الأجداد:

و الإرث في هذا الطبقة متوقّف على عدم وجود أحد من الطبقة الاولى، فمن كان في هذه الطبقة لا يرث مع وجود من هو في الطبقة الاولى، سواء كان متعدّدا أم منفردا. [2]

و الاخوة أيضا صنفان:

فلو فرضنا أنّه لم يكن للميّت أخ و لا أخت، و لكن للأخ أو الأخت ابن أو

______________________________

و عن أبي أيوب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ في كتاب علي عليه السّلام: «و كلّ ذي رحم بمنزلة الرحم الذي يجرّبه، إلّا أن يكون وارث أقرب إلى الميّت منه فيحجبه». الوسائل 26: 188 باب 2 من أبواب ميراث الأعمام و الأخوال ح 6 و غير ذلك من الروايات التي لا يسع المقام لذكرها.

[1] دلّ على ذلك رواية عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «ابن الابن إذا لم يكن من صلب الرجل أحد قام مقام الابن، قال: و ابنة البنت إذا لم يكن من صلب الرجل أحد قامت مقام البنت» المصدر السابق 26: 112، باب 7 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، ح 5.

[2] لما رواه محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «لا يرث مع الامّ و لا مع الأب و لا مع الابن و لا مع الابنة

إلّا الزوج و الزوجة» الوسائل 26: 91، باب 1 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، ح 1.

محاضرات في المواريث، ص: 61

بنت، يقوم الابن أو البنت مقام امّه أو أبيه، فيشترك مع الأجداد. [1]

فإذا فرضنا أنّه لا يوجد من هذه الطبقة أحد تصل النوبة إلى الطبقة الثالثة.

الطبقة الثالثة: و هم الأعمام و الأخوال و أولاد الأعمام و الأخوال:

و هذه الطبقة صنف واحد، فلو فرضنا أنّ الميّت ليس له أخوال أو خالات فكلّ المال يكون للأعمام و العمّات، و هكذا العكس إذا لم يكن أحد من الأعمام و العمّات فيكون جميع المال للأخوال و الخالات. [2]

هذه هي طبقات الإرث. [3]

______________________________

[1] لما رواه محمّد بن مسلم، قال: نشر أبو جعفر عليه السّلام صحيفة، فأوّل ما تلقّاني فيها: «ابن أخ و جدّ، المال بينهما نصفان»، فقلت: جعلت فداك إنّ القضاة عندنا لا يقضون لابن الأخ مع الجدّ بشي ء، فقال: «إنّ هذا الكتاب بخطّ عليّ عليه السّلام و إملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله». الوسائل 26: 195 باب 5 من أبواب ميراث الأخوة و الأجداد، ح 1.

[2] دلّ على ذلك الروايات المستفيضة، منها ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل ترك عمّته و خالته، قال: «للعمّة الثلثان، و للخالة الثلث» الوسائل 26: 187، باب 2 من أبواب ميراث الأعمام و الأخوال، ح 3.

[3] و قد جمع الحرّ العامليّ قدّس سرّه هذه الطبقات الثلاث، و أضاف إليها الولاءات الثلاث، فيكون المجموع ستّة بقوله:

و الطبقات الستّ أولاها الولد و الوالدان ثمّ اخوة و جدّ

يتلوهما الأعمام و الأخوال ثمّ الموالي المعتقين نالوا

الإرث ثمّ ضامن الجريرة ثمّ الإمام سيّد العشيرة

محاضرات في المواريث، ص: 62

الموجب الثاني للإرث: السبب

اشارة

و هو أمران:

1- الزوجيّة:

الزوج يرث زوجته و الزوجة ترث زوجها فهما يرثان مع جميع الطبقات، فلا يحرم أحدهما من الميراث أصلا، سواء كانا مع الطبقة الاولى أو الثانية أو الثالثة [1].

2- الولاء:

أمّا الولاء فالإرث فيه مشروط على عدم وجود من يتقرب للميت بالنسب و لو كان بعيدا كأبناء الأعمام و أبناء الأخوال- مثلا- فهم مقدّمون على من يرث بسبب الولاء، فإذا فقد الميت رحما له و لو بعيدا تصل النوبة إلى الميراث بالولاء.

______________________________

[1] أي أنّ إرث الزوج و الزوجة يجامع الطبقات الثلاث من النسب، و الولاءات الثلاث أيضا عند عدم الوارث النسبي، إلّا أنّه وقع الخلاف فيما إذا لم يكن وارث إلّا الإمام فهل يعطى الباقي له عليه السّلام، أو أنّه يردّ عليهما؟ أمّا بالنسبة للزوج فالأقوى أنّه يرد عليه و لا تصل النوبة إلى الإمام، فهو يرث فرضه مع الطبقات الثلاث، و مع فقدها يرث فرضه مع المعتق، و مع عدم المعتق فمع ضامن الجريرة، و عند عدم المعتق و عدم ضامن الجريرة يردّ الباقي على الزوج و لا تصل النوبة إلى الإمام عليه السّلام.

و أمّا بالنسبة إلى الزوجة فالأقوى أنّها لا يردّ عليها بل تأخذ فرضها الربع و يعطى الباقي للإمام عليه السّلام.

محاضرات في المواريث، ص: 63

للإرث حالات مختلفة

اشارة

1- فقد يكون الإرث بالفرض 2- و قد يكون بالقرابة 3- و قد يكون تارة بالفرض و اخرى بالقرابة 4- و قد يكون بالولاء حيث لا فريضة و لا قرابة

محاضرات في المواريث، ص: 65

إرث الوارث من الميّت:

1- قد يكون بالفرض، أي أنّه يرث ما فرض اللّه له في كتابه العزيز. [1]

و هو كما في الزوج و الزوجة: الزوج يرث الربع أو يرث النصف دائما، و الزوجة ترث الثمن أو الربع دائما.

هذا فرضهما من اللّه، كان هناك شخص آخر أم لم يكن، فإرثهما بالفريضة. [2]

______________________________

[1] الفرض: هو السهم المقدّر في الكتاب المجيد في الآية 11

و 12 و 176 من سورة النساء، و الفروض ستة أنواع، و أصحابها ثلاثة عشر كما يلي:

1- النصف: و هو للبنت الواحدة، و للأخت للأبوين أو للأب فقط إذا لم يكن معها أخ، و للزوج مع عدم الولد للزوجة و إن نزل.

2- الربع: و هو للزوج مع الولد للزوجة و إن نزل، و للزوجة مع عدم الولد للزوج و إن نزل، فإن كانت واحدة اختصّت به، و إلّا فهو لهن بالسويّة.

3- الثمن: و هو للزوجة مع الولد للزوج و إن نزل، فإن كانت واحدة اختصّت به، و إلّا فهو لهن بالسويّة.

4- الثلثان: للبنتين فصاعدا مع عدم الابن المساوي، و للأختين فصاعدا للأبوين أو للأب فقط مع عدم الأخ.

5- الثلث: للأمّ مع عدم الولد و إن نزل، و عدم الأخوة- على تفصيل يأتي- و للأخ و الاخت من الام مع التعدّد.

6- السدس: لكلّ واحد من الأبوين مع الولد و إن نزل، و للأمّ مع الاخوة للأبوين أو للأب- على تفصيل يأتي- و للأخ الواحد من الام و الاخت الواحدة منها. راجع منهاج الصالحين 2: 350.

[2] ففي رواية محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «و إنّ الزوج لا ينقص من النصف شيئا إذا لم يكن

محاضرات في المواريث، ص: 66

و إن كان الزوج قد يردّ عليه إذا لم يكن للميّت وارث إلّا الإمام عليه السّلام.

و كذلك الام إن كان للميّت ولد فلها السدس، و إن لم يكن له ولد فلها الثلث إلّا مع الحاجب، ففرضها إمّا ثلث أو سدس، فهي ترث دائما بالفرض. إلّا إذا لم يوجد غيرها وارث من الطبقة الأولى فيردّ الباقي عليها.

2- و قد يكون الإرث بالقرابة فقط، [1] و ذلك

كالولد فإن الولد لم يفرض له فريضة في كتاب اللّه أو في الروايات، و إنّما يرث ما تركه أبوه، فإذا كانت معه بنت أيضا فيكون نصيب الولد ضعف نصيب الانثى، قال تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ* فإن لم تكن له اخت فالجميع له، فليس له فريضة في كتاب اللّه، و إرثه دائما إرث بالقرابة.

3- و قد يفرض أنّ الإرث قد يكون بالقرابة، و قد يكون بالفريضة كالبنت الواحدة، فإذا كانت البنت واحدة و لم يكن معها ولد ففريضتها النصف، قال تعالى:

وَ إِنْ كٰانَتْ وٰاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، و إن كان معها ولد فليس لها فريضة، بل يكون إرثها نصف ما يرثه أخوها.

فتارة ترث البنت الواحدة بالفريضة، و اخرى بالقرابة.

فهذه ثلاثة أقسام بالنسبة إلى الإرث بالفريضة أو بالقرابة.

4- و قد يكون الإرث لا بالفريضة و لا بالقرابة.

و ينحصر هذا النحو من الإرث (بالولاء) كما لو فرضنا أن الميّت ليس له أي

______________________________

ولد، و الزوجة لا تنقص من الربع شيئا إذا لم يكن ولد، فإذا كان معهما ولد فللزوج الربع و للمرأة الثمن».

الوسائل 26: 195 باب 1، من أبواب ميراث الأزواج، ح 1.

[1] كلّ رحم لم يفرض له فرض في كتاب اللّه من طبقات الورّاث فهو يرث بالقرابة، سواء كان يتقرب إلى الميت بواسطة النساء أو بواسطة الذكور.

محاضرات في المواريث، ص: 67

قريب من الطبقات الثلاث فإرثه يكون للمعتق، و مع عدمه فيكون لضامن الجريرة، و مع عدمه فللإمام عليه السّلام، فليس هنا فريضة، و ليست هنا أيّ قرابة [1].

فهذه أربعة أقسام.

______________________________

[1] دلّت على ذلك الروايات المستفيضة، منها رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «من مات و ليس له وارث من قرابته و لا

مولى عتاقه قد ضمن جريرته فماله من الأنفال»، و قد دلت الروايات على أنّ الأنفال للإمام عليه السّلام بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

الوسائل 26: 246، باب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة و الإمامة.

محاضرات في المواريث، ص: 69

الإرث بالفرض ثلاثة أقسام:

اشارة

فقد تكون الفريضة ثابتة لا تزيد و لا تنقص و قد يزاد على الفريضة بالردّ و قد ينقص شيئا من الفريضة و ذلك عند العول

محاضرات في المواريث، ص: 71

من يرث بالفريضة قد يفرض أنّه لا يزيد على فريضته شي ء أبدا، سواء كان هنا قريب أم لم يكن قريب لا يفرق في ذلك.

و هذا منحصر في الزوجة، فإنّها ترث الربع إذا لم يكن للميّت ولد، و ترث الثمن إذا كان له ولد، لا يزيد على حصّتها شي ء في جميع الفروض. [1]

و قد يفرض أن صاحب الفريضة يأخذ شيئا زائدا على فريضته، و هذا في موارد كثيرة:

كما إذا فرضنا أنّه ليس للميت أيّ قريب في الطبقة الاولى، إلّا بنتا واحدة فهي تأخذ نصف المال بالفرض، و النصف الآخر بالقرابة، فجميع المال يكون لها، مقدار منه فرضا و مقدار منه قرابة. [2]

و كذلك البنت الواحدة إذا اجتمعت مع الأبوين، فيكون نصف المال للبنت، و لكلّ من الأبوين السدس بالفريضة، فيبقى سدس التركة زائدا، فيقسّم بين الوالدين و البنت على حسب نصيب كلّ منهم، فيقسّم أخماسا، فكلّ واحد منهم يأخذ فريضته، و يأخذ شيئا زائدا على الفريضة. [3]

______________________________

[1] لما روي عن أبي جعفر عليه السّلام في رجل توفّي، و ترك امرأته قال: «للمرأة الربع، و ما بقي فللإمام» و مثلها غيرها من الروايات الواردة في الوسائل 26: 202 باب 4 من أبواب ميراث الأزواج، ح 3.

[2]

فقد ورد في عدّة روايات الحديث عن إرث الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها و أنها ورثت جميع تركة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فطبعا هذا إنّما يكون بعد إخراج الثمن لنسائه و الباقي سبعة أثمان لها (سلام اللّه عليها). راجع الوسائل 26: 100 و ما بعدها باب 4 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد.

[3] دلّت على ذلك عدّة روايات، نذكر منها رواية حمران بن أعين، عن أبي جعفر عليه السّلام: في رجل ترك ابنته و امّه: «أنّ الفريضة من أربعة أسهم، فإنّ للبنت ثلاثة أسهم، و للأمّ السدس سهم، و بقي سهمان، فهما أحقّ بهما من العمّ و ابن الأخ و العصبة، لأنّ البنت و الأمّ سمّي لهما، و لم يسمّ لهم، فيردّ عليهما بقدر سهامهما». الوسائل 26: 129 باب 17 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، ح 3.

محاضرات في المواريث، ص: 72

ثمّ إنّ من يأخذ الزائد قد ينقص من فريضته و قد لا ينقص، فلو فرضنا أنّ الحصص لا تفي بالتركة كما لو كان الوارث بنتا واحدة و أبوين و زوجا، فللزّوج الربع، و لكل من الوالدين السدس، و للبنت النصف، فلا يفي المال بهذه الفروض، إذ لا يقسّم المال على نصف و سدسين و ربع، فينقص لا محالة.

و هذا النقص لا يرد على الأبوين و لا على الزّوج- كما ذكرنا- فيرد النقص على البنت فقط، فتكون حصّة البنت أقل من النصف- كما يأتي تفصيله في باب العول.

محاضرات في المواريث، ص: 73

الإرث بالنسب لا يكون إلّا مع صدق القرابة و الرحم عرفا
اشارة

محاضرات في المواريث، ص: 75

اشتراط صدق القرابة و الرحم في الإرث

ذكر جملة من الفقهاء، منهم صاحب الجواهر قدّس سرّه أنّه لا بدّ في الإرث بالنسب من صدق (القرابة و الرحم عرفا). «1»

و ذلك لأنّ الموضوع في الآيات و كذلك في الروايات عنوان: (القريب) و (الرحم).

قال تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ*. «2»

و كذا قوله سبحانه لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ. «3»

فمن هذه الآيات المباركة و من الروايات المماثلة لها استفدنا قاعدة: (الأقرب يمنع الأبعد)، فيعتبر في إرث الوارث أن يكون قريبا للميّت، و أن يكون رحما له، و لا يكفي مجرّد الاتّصال بالنسب و لو عن طريق الجدّ البعيد، فإنّه إذا كان بعيدا لا يصدق أنّه رحم له، و لذا يقال: إنّه ليس من قرابتي، بل هو من عشيرتي، فكونهما من عشيرة واحدة لا يقتضي أن يكون قريبا له، فمثلا السادة كلّهم من أولاد أمير

______________________________

(1) قال قدّس سرّه في تعريفه للنسب: (مع صدق النسب عرفا) الجواهر 39: 7.

(2) الأحزاب: 6.

(3) النساء: 7.

محاضرات في المواريث، ص: 76

المؤمنين عليه السّلام، أو إذا عمّمنا من أولاد هاشم حتّى غير العلويين، ليس كلّ سيّد مع كلّ سيّد رحما و لا قريبا له، بل يقال: إنّه أجنبيّ و لو فرضنا أنهما يشتركان في جدّ واحد بعيد، فمثل هذا لا يكون وارثا، لأنّه ليس بقريب و لا رحم. قال تعالى:

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ «1».

فالأرحام طائفة خاصة من المنسوبين إلى الإنسان، و ليس الاشتراك في الجدّ البعيد حتّى آدم موجبا لصدق أنّه رحم. و المعتبر في الإرث (القرابة) و أن يكون (رحما) كما

هو مضمون الآيتين.

وهم و دفع:

الوهم: ربّما يستشكل فيما تقدّم، و يقال بأنّه لا موجب لهذا التقييد، فإنّ الآية المباركة يُوصِيكُمُ اللّٰهُ فِي أَوْلٰادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. «2»

فالأولاد أعمّ من الأولاد بالواسطة و بلا واسطة، سواء كان الولد قريبا أم بعيدا، و لأجل ذلك عمّم الحكم في تحريم النكاح في الأولاد و في البنات بين البعيد و القريب، فلا يجوز للجدّ و إن كان بعيدا جدّا أن يتزوج من بنات أولاده- و لو كانت الوسائط كثيرة- بلا خلاف و لا إشكال.

فقد قال الإمام عليه السّلام للخليفة: «لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيّا و خطب ابنتك أكنت تجيبه؟» قال: نعم، و أفتخر بذلك.

فقال عليه السّلام: «أما إنّه لا يخطب بنتي، لأنّ بنتي بنته، فهي من بنات رسول

______________________________

(1) محمّد: 23.

(2) النساء: 11.

محاضرات في المواريث، ص: 77

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم». [1]

فقال بعضهم: إنّه لا فرق بين القريب و البعيد من هذه الجهة، و الآية مطلقة، إلّا أنّ كثرة وجود من يتقرّب إلى الميّت بالنسب في العالم، كأولاد آدم، و كالسادة لا يمكن الوصول إليهم لكثرتهم، فهم لا يرثون لتعذّر الوصول إليهم، فيكون الإرث لغيرهم.

الدفع: و ما ذكروه من الإشكال و الاستدلال لا يمكن المساعدة عليه، بل الصحيح ما ذهب إليه صاحب الجواهر و غيره قدّس سرّه، لما ذكرناه من أنّ الآية المباركة ظاهرة في الاختصاص باولي الأرحام عرفا وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ*.

و بالقريب عرفا لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ..

و أمّا الآية المباركة الّتي استدلّوا بها فليست في مقام بيان تشريع الإرث، و أنّ كلّ ولد يرث، قريبا كان أو بعيدا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ

الْأُنْثَيَيْنِ* و إلّا لكان ولد الولد يشترك مع أبيه، و هذا باطل جزما.

و لو كان المراد من يُوصِيكُمُ اللّٰهُ فِي أَوْلٰادِكُمْ كلّ من يصدق عليه أنّه ولد

______________________________

[1] في (عيون الأخبار)، عن هاني بن محمّد بن محمود، عن أبيه، رفعه إلى أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام، قال له الرشيد: «لم جوّزتم للعامّة و الخاصّة أن ينسبوكم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يقولون لكم: يا بني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنتم بنو عليّ، و إنّما ينسب المرء إلى أبيه، و فاطمة إنّما هي وعاء، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جدّكم من قبل أمّكم؟ فقال عليه السّلام: «يا أمير المؤمنين لو أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نشر، فخطب إليك كريمتك، هل كنت تجيبه»؟ فقال:

سبحان اللّه و لم لا أجيبه؟! بل أفتخر على العرب و العجم و قريش بذلك، فقال له: «لكنّه صلّى اللّه عليه و آله لا يخطب إليّ و لا أزوّجه»، فقال: و لم؟ فقال عليه السّلام: «لأنّه ولدني و لم يلدك»، فقال: أحسنت يا موسى. عيون أخبار الرضا 1: 80.

محاضرات في المواريث، ص: 78

و إن كان بعيدا، فمعناه أنّ ولد الولد، أو ولد ولد الولد، أو بنت الولد يكون في عرض الولد المباشر، و هذا باطل جزما.

فالمراد بالآية المباركة كيفيّة التقسيم بين الأولاد، و أنّهم إذا كانوا مجتمعين يكون التقسيم بهذا الترتيب. أمّا أيّ ولد يرث، و أيّ ولد لا يرث؟ البعيد لا يرث مع القريب، و يكون الوارث هو القريب، فالآية غير ناظرة إلى ذلك، و إنّما يستفاد ذلك من آيات أخر كقوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ

بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ* فالولد أولى من ولد الولد، و ولد الولد أولى من ولد ولد الولد، و هكذا.

فالآية في مقام بيان كيفيّة التقسيم، و أنّ التقسيم بين الأولاد أينما يكون فيكون بهذه الصورة لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ*.

فقياس ما نحن فيه بالمحرميّة تحريم الأولاد أو البنات على الأجداد و الجدّات قياس مع الفارق.

فلو فرضنا أنّ هذا الحكم كان ثابتا، و أنّه لا يفرق بين القريب و البعيد، فمتى تصل النوبة إلى الولاء أو إلى الإمام عليه السّلام؟ فأيّ شخص يموت في العالم و لم يكن له ابن عم و لو بعيدا؟ أو ابن خال و لو بعيدا؟! فابن الخال و ابن العم البعيد موجود دائما غاية الأمر أنّه مجهول و غير معروف، فيكون داخلا في مجهول المالك لا في من لا وارث له، فرق بين من يموت و لا وارث له و بين من له وارث لا نعرفه، فهذا يدخل في من مات و له وارث للقطع بأنه له ابن عم أو ابن خال و لو بعيدا فيكون الميراث له و يكون من مجهول المالك.

أمّا الكثرة بمجردها فلا تكون مانعة عن الإرث، فلو فرضنا أن رجلا كان له

محاضرات في المواريث، ص: 79

ستون ولدا- كما نقل في عصرنا عن السيّد نور قيل أنّه كان له ستون ولدا غير البنات- ففي الطبقة الثانية نفرض أن لكل ولد عشرة أولاد فتكون الطبقة الثانية ست ماءة ولد، و في الطبقة الثالثة ستة آلاف و هكذا. أ فهل يحتمل أن لا يكون لهم إرث لكثرة العدد؟! فلنفرض أن هؤلاء كانوا منتشرين في العالم جملة منهم في بلد و جملة في بلد آخر و جملة في ثالث و هكذا، فهل

يكون هذا مانعا عن الإرث؟ لمجرد كثرة العدد و التفرق في البلاد؟! الذي لا يكون وارثا هو من لا مقتضي له في الإرث لبعده لا أنّه مع وجود المقتضي نمنعه من الإرث لكثرة العدد، فهذا الكلام لا أساس له فالصحيح أنّه يعتبر أن يكون قريبا له عرفا بحيث يعد من قرابته عند العرف، و من أرحامه عرفا، و إلّا فلا إرث بينهما و إن كان النسب نسبا واحدا ينتهيان إلى موسى بن جعفر عليه السّلام أو إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أو غير ذلك.

محاضرات في المواريث، ص: 80

إذا تعدّد الورثة:

فإمّا أن يكون إرث كل منهم من جهة القرابة دون الفرض.

و إمّا أن يكون إرث الجميع بالفرض.

أو أن يكون بعضهم يرث بالفرض و البعض الآخر يرث بالقرابة.

فإذا كان كلّهم يرثون بالقرابة فلا إشكال، كما إذا خلّف ولدا و بنتا واحدة أو أكثر فإن المال يقسم بينهم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ*- كما ذكر في القرآن الكريم- يأخذ الولد ضعف الانثى.

فإذا كانت بنتا واحدة مع ولد واحد يقسّم المال أثلاثا فالبنت تأخذ الثلث، و يكون الثلثان للولد، و إذا كانتا ابنتين فللولد النصف و النصف الآخر يقسّم بين البنتين و هكذا، لعدم فريضة لا للبنت و لا للولد فيكون التقسيم على حسب القرابة.

و أمّا إذا كان بعضهم يرث بالفرض و البعض الآخر يرث بالقرابة: فصاحب الفرض يأخذ فرضه و الباقي يقسّم بين غير ذوي الفرض- على ما ذكره اللّه تعالى- فإذا ترك أبوين و ولدا، أو أبوين و ولدا و بنتا، أو أولاد كثيرين، الأولاد ليس لهم فرض في هذه الصورة أمّا الأبوان فلكلّ واحد منهما السدس، فيؤخذ سدس للأب و سدس للأم، و الباقي يقسّم بين الأولاد

لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ*. أيضا

محاضرات في المواريث، ص: 81

لا إشكال في المسألة.

و إذا فرضنا أنهم جميعا يرثون بالفرض و ليس بينهم من يرث بالقرابة فهذا على ثلاثة أقسام:

1- فتارة تكون الفروض مستوعبة للتركة بلا زيادة و لا نقيصة.

2- و تارة تزيد التركة على الفروض.

3- و ثالثة تنقص التركة عن الفروض.

أمّا القسم الأوّل و هو: ما إذا كانت التركة مساوية للفروض أيضا لا إشكال في المسألة.

فلو فرضنا أنّه ترك بنتين و أبوين فلكلّ من الأبوين السدس، و للبنتين الثلثان، فالتركة توزع بينهم بلا زيادة و لا نقيصة. و هذا أيضا مما لا إشكال فيه.

و أمّا القسم الثاني و هو: ما إذا فرضنا أن التركة زادت على الفروض و جميعهم يرثون بالفرض لا بالقرابة.

كما إذا فرضنا أنّه ترك بنتا واحدة و أبوين: فللبنت الواحدة النصف، و لكلّ من الأبوين السدس، فطبعا تزيد التركة على الفروض بسدس، لأنّ النصف ثلاثة أسداس للبنت، و لكلّ من الأبوين السدس، فهذه خمسة أسداس و السدس الباقي لم يذكر له حكم في الآية المباركة فهذه صورة الزيادة.

و هكذا لو ترك بنتين مع أحد الأبوين فقط، فالثلثان للبنتين و السدس للأب أو للأمّ، فيبقى سدس بلا مالك، فتزيد التركة على الفروض بشي ء.

و أمّا القسم الثالث و هو: ما إذا فرضنا أن التركة تنقص عن الفروض.

كما إذا ترك بنتين و أبوين و زوجا أو زوجة، ففي مثل ذلك الزوج يأخذ الربع،

محاضرات في المواريث، ص: 82

و في فرض الزوجة تأخذ الثمن فهنا إمّا الربع أو الثمن، و للأبوين السدسين، و للبنتين الثلثان، و في فرض البنت الواحدة فلها النصف، ففي الفرض الزوج يأخذ الربع و الربع يزيد على السدس بنصف سدس فتنقص

التركة عن الفريضة لا محالة:

الأبوان يأخذان الثلث، و البنت الواحدة تأخذ النصف، فإذا كان هنا زوج يأخذ الربع، الربع زائد على السدس فتكون التركة ناقصة بالنسبة إلى ما فرضه اللّه تعالى لا محالة.

فما هو الحكم في هاتين الصورتين: أي فيما إذا نقصت التركة، أو فيما إذا زادت التركة؟

محاضرات في المواريث، ص: 83

بحث حول ما ذهب إليه أصحاب المذاهب من التعصيب و العول و تحقيق الحقّ فيهما
اشارة

محاضرات في المواريث، ص: 85

مسألة الردّ أو التعصيب

المتسالم عليه بين فقهاء الشيعة تبعا لما ورد عن أئمتهم عليهم السّلام أن ما يزيد عن الفروض يردّ إلى ذوي الفروض بنسبة ما يرثون، فإذا كان الوارث بنتا واحدة و أبوين- مثلا- تأخذ البنت النصف و يأخذ كلّ من الأبوين السدس، فيبقى سدس واحد، هذا السدس يقسّم بين البنت و الأبوين بالنسبة، فيقسّم أخماسا: خمس للأب، و خمس للأم، و ثلاثة أخماس للبنت.

فيكون حكم الباقي حكم الأصل فكما أنّه من الأصل نسبة ما تأخذه الأم أو ما يأخذه الأب ثلث بالنسبة إلى ما تأخذه البنت، فهي تأخذ ثلاثة، و الأب يأخذ واحدا، و الأم أيضا تأخذ واحدا. السدس الباقي أيضا يقسّم بهذه النسبة و لا تصل النوبة إلى العصبة.

و قد خالفنا في ذلك العامّة فقالوا بالتعصيب و أن الباقي يعطى للعصبة.

و العصبة: هم الذكور المنتسبون إلى الميت بلا واسطة كالأخ، أو مع الواسطة كالعم و ابن العم، أو ابن الأخ و يحرمون الإناث من الإرث إلّا في بعض الحالات النادرة- على ما هو مذكور في كلماتهم.

محاضرات في المواريث، ص: 86

فالزائد لا يرد إلى الورثة أصحاب الفروض، و لا يعطى إلى ذوي الأرحام [1] ممن يتقرّب إلى الميت عن طريق النساء بل يعطى إلى العصبة. [2]

______________________________

[1] راجع حلية العلماء للقفّال الشاسي 6: 261، و الحاوي للماوردي 8: 82، و قد قال في المعاني البديعة 2: 176: مسألة: عند الشافعى و أبي بكر و زيد بن ثابت و ابن عمر و عمر في إحدى الروايتين و مالك و الأوزاعي و داود و أهل الشام و أبي ثور و أكثر العلماء عدم توريث ذوي الأرحام.

ثمّ قال: ذوي الأرحام من ليس لهم

فرض و لا تعصيب. و في المغني لابن قدامة 7: 82- 83: « (باب ذوي الأرحام)، و هم الأقارب الذين لا فرض لهم و لا تعصيب، و هم أحد عشر حيزا: ولد البنات، و ولد الأخوات، و بنات الأخوة، و ولد الأخوة من الأم، و العمات من جميع الجهات، و العم من الأم، و الأخوال و الخالات، و بنات الأعمام، و الجد أبو الأم، و كلّ جدّة أدلت بأب بين أمين أو أب أعلى من الجد، فهؤلاء و من أدلى بهم يسمّون ذوي الأرحام».

[2] و قد ردّ عليهم ثقة الإسلام الكليني قدّس سرّه بقوله: (ثمّ ذكر إبطال العصبة فقال تعالى لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّٰا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً و لم يقل و ما بقي للرجال دون النساء، فما فرض اللّه جل ذكره للرجال في موضع حرّم فيه على النساء بل أوجب للنساء في كلّ ما قلّ أو كثر).

و في كتاب أبي نعيم الطحان رواه عن شريك عن إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر [جبير] عن زيد بن ثابت أنّه قال: (من قضاء الجاهلية أن يورث الرجال دون النساء) [الكافي 7: 75].

محاضرات في المواريث، ص: 87

إشكال على القول بالرد و مناقشته
الإشكال:

حاصله أنا إذا بنينا على أن البنت الواحدة إذا نقص من التركة شي ء يقع النقص عليها، و إذا زادت التركة على الفروض يردّ عليها فهي تشترك مع الآخرين أو تختص هي بالزيادة.

فلو كانت بنت واحدة و لم يكن والد و لا والدة تأخذ البنت جميع المال، و إذا كان معها أبوان تأخذ 3/ 5 السدس الزائد و خمس للوالد و خمس للوالدة.

فإذا كانت

كذلك يرد عليها تارة و ينقص منها اخرى ففي أي فرض يتحقق إرثها للنصف؟ لا يوجد أي مورد لذلك، فهي إمّا أن تزيد حصتها على النصف أو أنّها تنقص من النصف.

فإذا ما معنى قوله تعالى وَ إِنْ كٰانَتْ وٰاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ أين يوجد أن البنت الواحدة ترث نصفا؟ لا يوجد أي مورد يفرض فيه أن البنت الواحدة تأخذ نصف المال.

فيلزم من ذلك أن يكون تشريع النصف للبنت الواحدة لغوا و منه يلزم لغوية الآية المباركة و هذا ممّا لا تلتزمون به.

محاضرات في المواريث، ص: 88

الرد على الإشكال:

كان كلامنا فيما أشكل على عدم الالتزام بالتعصيب و العول و أنّه على ذلك لا يوجد مورد يكون للبنت الواحدة النصف.

و هذا الإشكال مبني على أن يكون التقسيم بالنصف أو الثلث أو الربع تقسيما على الإطلاق.

و أمّا إذا كان التقسيم تقسيما بالنسبة كما هو ظاهر الآيات المباركة أنّ تركة الميت إنّما تقسّم بين الورثة بهذه النسبة، أي بنسبة النصف و الثلث و الثلثين و هكذا فهذا يسمّى (التقسيم بالنسبة) و له باب في علم الحساب.

فيقسّم المال بهذه النسبة و لا يلزم أن يكون ما يصل إلى أحدهم نسبته إلى مجموع المال هذه النسبة.

و من هذا القبيل ما نسب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام من حكمه في من أوصى و له سبعة عشر بعيرا أن يعطي لأحد أولاده نصفا و للثاني ثلثا، و للثالث تسعا، فجاءوا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام من جهة هذا التقسيم أن سبعة عشر بعيرا كيف تقسم على نصف و ثلث و تسع فأضاف عليه السّلام إليها بعيره فصارت ثمانية عشر بعيرا فقسّمها بينهم: تسعة لصاحب النصف، و ستة لصاحب الثلث، و اثنان لصاحب التسع فبقي

واحد، فأخذ أمير المؤمنين عليه السّلام بعيره.

هذا هو التقسيم الصحيح بحسب موازين القسمة بالنسبة فإنّه في هذه الموارد يوحّد مخرج الكسور، فمخرج التسع هو تسعة، و مخرج الثلث ثلاثة، و مخرج النصف اثنين.

محاضرات في المواريث، ص: 89

طبعا ثلاثة تكون ثلاثة أتساع إذا أضيفت إلى التسع فيكون أربعة أتساع، و النصف أربعة أتساع و نصف، فيكون المجموع ثمانية أتساع و نصف: تسع لواحد، و ثلاثة أتساع للآخر، و أربعة أتساع و نصف للثالث.

فيقسم مجموع المال و هو سبعة عشر- في مفروض المثال- على ثمانية و نصف فيكون الخارج اثنين، إذن يتحصل أن كلّ نصف تسع له واحد، و كلّ تسع له اثنان، فتكون النتيجة أن الأثنين لصاحب التسع، و ستة لصاحب الثلث، و تسعة لصاحب النصف.

فالآية المباركة ناظرة إلى أن تقسيم المال يكون بالنسبة النصف و الربع و الثلث و غير ذلك مما ذكر في الكتاب العزيز، إذن لا نحتاج إلى أن نجد موردا يكون للبنت المنفردة النصف، لأن المقصود بالنصف النصف بالنسبة لا النصف على الإطلاق، و النصف بالنسبة قد يزيد و قد ينقص. [1]

______________________________

[1] هذا الرد صحيح بالنسبة إلى البنت الواحدة و البنتين حيث تقع المزاحمة بين النصف للبنت الواحدة و الثلثين للبنتين و السدس أو السدسين لأحد الأبوين أو كلاهما، أمّا بالنسبة إلى الأخت و الأختين فلا يجري ما ذكره قدّس سرّه من التوجيه لعدم المزاحم لهما من أصحاب الفروض إلّا في فرض مزاحمة كلالة الام و مع مزاحمة كلالة الأم فإنّه لا يردّ عليهم فإن السدس الزائد في فرض تعدّد كلالة الام أو السدسين في فرض اتّحادها إنّما يردان على كلالة الأبوين أو الأب فقط، فلا يوجد فرض ترث فيه الأخت

الواحدة النصف بلا زيادة و لا نقيصة، و بالنسبة إلى الأختين لا يوجد إلّا فرض واحد فقط و هو ما إذا اجتمع معهما اثنان أو أكثر من كلالة الأم.

فما هو الجواب فيما إذا أشكل على تشريع النصف بالنسبة إلى الأخت الواحدة و المفروض أن كلالة الأم لا يرد عليهم و يكون الرد عليها فقط؟! يمكن الإجابة على ذلك بأن الحكمة من تشريع النصف و الثلثين في المقام هي التأكيد على قلة نصيب الأنثى دائما و أنّها لا تفضّل على الذكر و لا تساويه فبالنسبة للأخت قال تعالى فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ

محاضرات في المواريث، ص: 91

القسم الثاني زيادة التركة على الفروض و الخلاف الواقع بين الشيعة و غيرهم من المذاهب من القول بالردّ على أصحاب الفروض و القول بالتعصيب
اشارة

محاضرات في المواريث، ص: 93

الكلام في أدلة القول بالتعصيب [1]

______________________________

[1] تقدم من سماحة سيّدنا الأستاذ أن فقهاء الشيعة قالوا بالرّد على أهل الفروض عند زيادة التركة على فروضهم.

و قال مخالفوهم بالتعصيب إلّا أن سماحته لم يتعرض لأدلتهم ليناقشها، فأضفنا هذا الفصل للنظر في أدلتهم إتماما للفائدة.

________________________________________

خويى، سيد ابو القاسم موسوى، محاضرات في المواريث، در يك جلد، مؤسسة السبطين (عليهما السلام) العالمية، قم - ايران، اول، 1424 ه ق

محاضرات في المواريث؛ ص: 93

كان مدار بحث سماحة سيّدنا الأستاذ حول إثبات صحة ما ذهب إليه الشيعة من القول برد ما زاد على الفروض على أصحابها و مناقشة ما أورد عليهم من الإشكالات و الإجابة عليها حلا و نقضا و قد امتاز بحثه قدّس سرّه بالأدلّة الحلّية التي لم يسبق لها نظير.

إلّا أنّه قدّس سرّه لم يتعرض لأدلّة القائلين بالتعصيب ليناقشها و لعل إعراضه عن ذلك إنّما كان لوهن أدلتهم فاكتفى بما ذكره من الأدلّة على صحة مذهبه و بطلان ما عداه.

و نحن إتماما للفائدة و لئلّا يبقى مجال للشكّ و الترديد آثرنا التعرض لما استدلوا به على القول بالتعصيب و مناقشته فعقدنا هذا الفصل لأجل ذلك فنقول مستعينين باللّه تعالى:

إنّ الآيات التي عينت الفرائض في الكتاب العزيز قد ذكرت فريضة البنت الواحدة، و البنتين فصاعدا و فريضة الأب مع الأمّ، و الأمّ في فرض وجود الولد و عدمه، و وجود الحاجب و عدمه، و كذا ذكرت فريضة الأخت إذا كانت واحدة أو أكثر من واحدة من كلالة الأبوين، أو الأب فقط، أو كلالة الأم.

إلّا أنّه قد تزيد التركة على الفروض في بعض الحالات فلمن تعطى هذه الزيادة؟ فقد زعم فقهاء المذاهب أن هذه الزيادة لم يذكر لها حكم في

كتاب اللّه و لذا فإنّهم استدلوا بروايتين على أن الزيادة تعطى للعصبات، و أمّا الشيعة فقد قالوا بأن حكم هذه الزيادة مذكور في الكتاب العزيز و استدلوا بقوله تعالى:

وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* مضافا إلى ما ورد من الأحاديث المعتبرة المستفيضة عن أهل البيت عليهم السّلام.

و قد أنكر فقهاء المذاهب الأخرى دلالة هذه الآية على الردّ بعد اتفاقهم على أنّها ناظرة إلى الإرث و ناسخة لما كان مشروعا قبل نزول الآية من التوارث بالهجرة و الموالاة [راجع تفسير الكشاف 2: 240.

و تفسير أبي السعود 7: 91، و غيرها من التفاسير]، فقد قال الصابوني في (تفسير آيات الأحكام):

الحكم الرابع: هل يورث ذوو الأرحام؟

(المراد من قوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ* أن أصحاب القرابة مطلقا أولى

محاضرات في المواريث، ص: 94

______________________________

بميراث بعض من الأجانب، و هذه الآية نسخت التوارث الذي كان بين المسلمين بسبب (المؤاخاة و النصرة أو بسبب الهجرة)، فقد كان المهاجري يرث أخاه الأنصاري بعد موته، ثمّ نسخ الحكم و أصبح التوارث بالقرابة النسبيّة) [تفسير آيات الأحكام 2: 280].

و أمّا الفخر الرازي فقد ادعى دلالة الآية الكريمة على توريث العصبات بعد إنكار دلالتها على الرّد فقال: (و أجاب أصحابنا عنه بأن قوله وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ* مجمل في الشي ء الذي حصلت فيه هذه الأولوية فلمّا قال: (في كتاب اللّه) كان معناه في الحكم الذي بينه اللّه في كتابه، فصارت هذه الأولوية مقيدة بالأحكام التي بينها اللّه تعالى في كتابه، و تلك الأحكام (ليست إلّا ميراث العصبات) فوجب أن يكون المراد من هذا المجمل هو ذلك فقط، فلا يتعدّى إلى توريث ذوي الأرحام) [تفسير الرازي 5: 520. و

الأم للشافعي 4: 84].

أقول: لا ينقضي العجب من هذه المغالطة في كلام الرازي، كيف حصر تلك الأحكام التي بينها اللّه تعالى في كتابه المجيد بالعصبات فقال: (و تلك الأحكام ليست إلّا ميراث العصبات) مع أنّه لم يرد أي ذكر للعصبات في الكتاب العزيز لا تصريحا و لا تلويحا فمن أي آية استخرج ميراث العصبات ليستدل على عدم التعدي إلى توريث ذوي الأرحام؟! أ ليس هذا إلّا الافتراء و الكذب على اللّه تعالى؟! فالمذكورون في القرآن الكريم هم الأولاد و الأبوان و الأخوة و الأخوات الذين فرض اللّه لهم الفرائض في سورة النساء، و أمّا غير هؤلاء فلم يرد لهم أي ذكر في كتاب اللّه، فأين محل العصبات من كتاب اللّه؟! و عليه فيكون المراد بقوله تعالى فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* هم أصحاب الفروض المذكورون في الكتاب لا غير فهم أولى بالميراث من غيرهم.

توضيح ذلك: أن كلّ عارف باللغة العربية إذا جرد نفسه عن العصبيات الجاهلية و أنصف في حكمه إذا راجع كتب اللغة يجد أن لفظ (الرّحم) كما ذكره ابن الأثير و غيره من علماء اللغة: (يقع على كلّ من يجمع بينك و بينه نسب) [النهاية لابن الأثير 2: 210] و قد جاءت هذه اللفظة في الآية الكريمة بصيغة الجمع و هي محلاة باللام الْأَرْحٰامِ* و الجمع المحلى باللام يفيد العموم لكلّ مصاديقه، فإذا كان (الرحم) من يجمع بينك و بينه نسب فهو شامل لمن يتقرب بالأناث كما يشمل من يتقرب بالذكور على حد سواء لأنهم كلهم يجمع بينك و بينهم نسب فالتخصيص بالذكور لا موجب له إلّا ما ذكروه من الحديثين الساقطين سندا و دلالة- كما نتعرض لهما قريبا- و لا يمكن تخصيص الكتاب بالأحاديث

الضعيفة قطعا، فقول ابن الأثير:

(و يطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء) [النهاية لابن الأثير 2: 210] مناقض لقوله

محاضرات في المواريث، ص: 95

______________________________

السابق و قد ثبت بطلانه، إذا لا فرق في الرحم بين القرابة من جهة النساء أو الرجال إذ لا دليل على التخصيص بعد أن كان المعنى اللغوي شاملا للجميع هذا.

مضافا إلى أن نفس القائلين بالتعصيب لم يلتزموا بذلك فقد أجمعوا على حرمان بنت الابن، و بنت الأخ، و بنت العمّ و العمات من الميراث و قالوا إن هؤلاء ليسوا من أهل الفروض و لا من العصبات مع العلم بأنّهم يتقربون إلى الميت من جهة الذكور، فما هو الوجه في إخراجهم من العصبات و حرمانهم؟

و عليه فلفظ الأرحام عام للجميع و لا داعي إلى تخصيصه إذ لا دليل على التخصيص.

و أمّا قوله تعالى أُولِي* فهو اسم تفضيل و الأولوية من المفاهيم الإضافية فلا بدّ من طرفين متضايفين و المقصود هنا الأولوية بالنسبة إلى الميت قطعا لأنّها أولوية في الإرث فالميت هو طرف الإضافة و كلّ من يكون أقرب إلى الميت فهو أولى بميراثه من الأبعد، مضافا إلى التأكيد في قوله تعالى:

فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* الذي يعين لنا أصحاب الفروض المذكورين في الكتاب العزيز.

إذن دلالة الآية المباركة على الرد إلى أصحاب الفروض المذكورين في كتاب اللّه واضحة لا غبار عليها، و أمّا ما ذكره الرازي من دلالتها على توريث العصبات فهو تحكّم لا شاهد عليه حيث أنّه لم يرد أي ذكر للعصبات في كتاب اللّه تعالى مطلقا.

و أمّا دليلهم من السنّة: فعمدة دليلهم على التعصيب حديثان:

أحدهما: حديث عبد اللّه بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ثانيهما:

حديث عبد اللّه بن محمّد بن عقيل عن جابر بن عبد اللّه.

أمّا الحديث الأوّل: فقد روى الترمذي في الجامع الكبير في باب (ميراث العصبة): حدثنا و هيب قال: حدثنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: قال: «الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» و قال: هذا حديث حسن و ليس هناك حديث غيره في هذا الباب [الجامع الكبير 3: 603.

أخرجه الطيالسي (2609). و سعيد بن منصور (288). و ابن أبي شيبة 11: 265 و أحمد 1: 292 و 313 و 325. و البخاري 8: 5 و 6 و 8. و تحفة الأحوذي 3: 180].

و لنا مناقشة في هذا الحديث من عدّة جهات: 1- أنّه روي بعدة طرق كلّها تنتهي إلى عبد اللّه بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقد تفرد بروايته ابن طاوس عن أبيه، و تفرد أبوه أيضا بروايته عن ابن عباس.

محاضرات في المواريث، ص: 96

______________________________

و هذا الحديث مضافا إلى ضعف عبد اللّه بن طاوس- كما تأتي الإشارة إلى ذلك- فإن جميع طرقه مرسلة إلّا طريق واحد فيه (علي بن عاصم) و هو ضعيف، فقد قال الحاكم في مستدركه، و كذا الذهبي في تلخيص المستدرك قالا: (و قد أرسله) سفيان الثوري، و سفيان بن عيينة، و ابن جريج، و معمر بن راشد عن عبد اللّه بن طاوس.

و أمّا الطريق المسند فقد قال الحاكم: (أخبرنا) أبو عمرو عثمان بن أحمد الدقاق ببغداد ثنا أحمد بن حبان ابن ملاعب ثنا علي بن عاصم ثنا عبد اللّه بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال:

قال لي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «الحقوا المال بالفرائض فما بقي فلأولى رجل ذكر» هذا حديث صحيح الأسناد، فإن علي بن عاصم صدوق، فقد صححه الحاكم استنادا إلى حكمه بصدق (علي بن عاصم)، إلّا أنّ الذهبي في ذيله علق عليه بقوله: (قلت: بل أجمعوا على ضعفه) [راجع المستدرك و في ذيله التلخيص 4: 338]، كما أن بن حجر قد ضعفه في (تهذيب التهذيب) فقد ذكر أقوال كبار العلماء في (علي بن عاصم) و قد أجمعوا على ضعف روايته و اضطراب حديثه و أنّهم لا يعتمدون عليه و إن كان البعض قد وثقه، إذ لا تنافي بين كون الرجل ثقة في دينه و كونه كثير الخطأ و اضطراب روايته فمن جملة ما نقله بن حجر قوله: قال محمّد بن المنهال ثنا يزيد بن زريع قال: لقيت علي بن عاصم بالبصرة و خالد ابن الحذاء حي، فأفادني أشياء عن خالد، فسألته عنها، فأنكرها كلّها، و أفادني عن هشام بن حسام حديثا، فأتيت هشاما فسألته عنه فأنكره. و قال البخاري: قال وهب بن بقية سمعت يزيد بن زريع ثنا علي عن خالد بسبعة عشر حديثا، فسألنا خالدا عن حديث فأنكره، ثمّ آخر فأنكره، ثمّ ثالث فأنكره فأخبرناه فقال: كذاب فاحذروه.

[تهذيب التهذيب 7: 346].

و بما ذكرناه يظهر ضعف الطريق المسند الذي صححه الحاكم و ضعفه الذهبي و ابن حجر، و لعلّ الحاكم كان مستندا في تصحيحه إلى توثيق على بن عاصم من قبل البعض، إلّا أن هذا التوثيق معارض بما ذكرناه من إجماعهم على اضطراب حديثه و عدم ضبطه ممّا أدّى إلى عدم قبول روايته عند العلماء.

فعلم مما قدّمناه أن طرق هذا الحديث كلّها مرسلة إلّا طريق

واحد فيه (علي بن عاصم) و هو ضعيف فلا يصح الاستناد إلى مثل هذه الرواية.

2- أن عبد اللّه بن طاوس الذي تنتهي إليه جميع هذه الطرق و قد تفرد برواية هذا الحديث ضعيف و لا يمكن الاستناد إلى روايته فهو أمين سرّ بني مروان قال ابن حجر: فقد جاء في رواية الحميري: أنّه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك و كان كثير الحمل على أهل البيت عليهم السّلام [نفس المصدر 5: 268] و من المعلوم أن بني مروان كانوا شديدي العداء لأهل البيت الطاهر و لا يأتمنون أحدا على سرّهم إلّا بعد أن

محاضرات في المواريث، ص: 97

______________________________

يعرفوا منه أنّه موافق لهم، فكان هذا الرجل يحاول مخالفة أهل البيت سلام اللّه عليهم و لو بوضع الأحاديث و الافتراء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسند هذا الحديث ساقط من عدّة جهات و لا يمكن الاعتماد عليه.

3- هذا الحديث مخالف لما ثبت عن ابن عباس قطعا، فإنّه كان يرى الرّد على أهل الفروض و يخالف القول بالتعصيب حتّى أنّه كان مستعدا للمباهلة مع من يخالفه في هذا الأمر فقد أخرج الحاكم بسنده و صححه على شرط الشيخين عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة قال: جاء ابن عباس رضي اللّه عنه رجل فقال:

رجل توفّي و ترك بنته و أخته لأبيه و أمّه، فقال: لابنته النصف و ليس لأخته شي ء، فقال الرجل: فإن عمر (رض) قضى بغير ذلك: جعل للابنة النصف و للأخت النصف، قال ابن عباس: أنتم أعلم أم اللّه؟! فلم أدر ما وجه هذا حتّى لقيت ابن طاوس فذكرت له حديث الزهري، فقال: أخبرني أبي أنّه سمع ابن عباس يقول: قال اللّه

عزّ و جلّ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ قال ابن عباس: (فقلتم أنتم: لها النصف و إن كان له ولد) [المستدرك 4: 339] هذا و قد نقلنا عن ابن عباس رواية مفصلة في هذا الموضوع في مقدّمة هذا البحث [راجع المقدّمة ص 23 و ما بعدها] و هناك أحاديث اخر تدلّ على عدم التزام ابن عباس بالتعصيب، و هذا ممّا يدلّ على كذب رواية ابن طاوس عنه، فلو كان ابن عباس قد روى هذه الرواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم خالفها و عمل على خلافها مع أنّه كان مستعدا للمباهلة مع من يخالفه في ذلك.

4- و ممّا يدلّ على كذب هذا الحديث هو مخالفته لما ثبت بالضرورة عند جميع المسلمين و مخالفة الآية المباركة قال تعالى لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّٰا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء: 7] قال المراغي في تفسير هذه الآية: (أي إذا كان لليتامى مال ممّا تركه لهم الوالدان و الأقربون فهم فيه سواء لا فرق بين الرجال و النساء، و لا فرق بين كونه قليلا أو كثيرا و أتى بقوله نَصِيباً مَفْرُوضاً* لبيان أنّه حقّ معيّن مقطوع به ليس لأحد أن ينقص منه شيئا و لا أن يحابي فيه) [تفسير المراغي 4: 192].

و قال السيوطي في تفسير قوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ*: و أخرج بن أبي حاتم عن سعيد بن جبير .. يعني من يكفر بقسمة المواريث و هم المنافقون كانوا لا يعدون أن للنساء و الصبيان الصغار من الميراث نصيبا) [الدر المنثور 2: 128].

و أخرج ابن

جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الفرائض التي فرض اللّه فيها ما فرض للولد الذكر و الانثى و الأبوين كرهها الناس أو بعضهم و قالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن و تعطى الابنة النصف و نعطي الغلام الصغير و ليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم و لا يحوز الغنيمة، و كانوا يفعلون ذلك

محاضرات في المواريث، ص: 98

______________________________

في الجاهلية لا يعطون الميراث إلّا لمن قاتل القوم و يعطون الأكبر فالأكبر [نفس المصدر السابق:

125].

فحديث ابن طاوس الذي خص الميراث بالذكور دون الإناث موافق لحكم الجاهلية الذي نقضه الإسلام و هذه الآية المباركة تقرر لنا حكما مخالفا تماما لحكم الجاهلية فقد أوجبت للنساء في كلّ موضع يرث فيه الرجال في كلّ ما قل أو كثر، و هذا الحديث خص الإرث «بأولى رجل ذكر».

5- نرى أنّ فقهاء المذاهب مع تمسكهم بهذا الحديث و التزامهم بالتعصيب فقد أجمعوا على مخالفته في كثير من الموارد- و هذا التناقض يكشف عن أمور تظهر للمنصف بأدنى تأمل- و نحن نذكر على سبيل المثال موردين منها:

الأوّل: إذا خلف بنتا و أبا، فالبنت لها النصف، و الأب له السدس فيبقى ثلث المال، و المفروض حسب حديث ابن طاوس أن يعطى هذا الثلث إلى العصبات، لأن ما زاد على الفروض يعطى (لأولى رجل ذكر) مع أنّهم أجمعوا على إعطاء الثلث للأب زيادة على سدسه المفروض له مع أنّه ليس من العصبات فإنّهم قالوا في تعريف العصبة: (العصبة من لم يكن له نصيب مقدر) [الفقه الحنبلي الميسر 3: 415.

و المعاني البديعة 2: 176]. و المفروض أن الأب له نصيب مقدّر و هو السدس، فإعطاؤه الثلث الباقي مناف لقوله: «الحقوا الفرائض

بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» و هنا بعد ما أعطوا الأب نصيبه أرجعوا إليه ما بقي.

الثاني: إذا خلف بنتا و أخا و أختا من الأب و الأمّ، فقد حكموا بالإجماع أن النصف للبنت و النصف الآخر بين الأخ و الأخت للذكر مثل حظ الأنثيين، مع أنّه مقتضى هذا الحديث أن النصف الباقي جميعه للأخ و الأخت تحرم من الإرث، إذ أن (ما بقي لأولى رجل ذكر) و هو الأخ، و أمّا الأخت فليست بذكر لتشارك الأخ فيما بقي.

فمخالفتهم العملية بالإجماع لهذا الحديث أدلّ دليل على وهنه.

فقد ظهر ممّا قدّمناه سقوط هذا الحديث سندا و دلالة فهو لا يصلح لإثبات حكم شرعي.

و أمّا الحديث الثاني: فهو ما رواه عبد اللّه بن محمّد بن عقيل و هو أيضا متفرد برواية هذا الحديث عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري و جميع أسانيد هذا الحديث تنتهي إلى عبد اللّه هذا و لم ينقل عن غيره، فقد جاء في صحيح الترمذي باب (ما جاء في ميراث البنات):

حدثنا عبد اللّه بن حميد حدثني زكريا بن عدي أخبرنا عبد اللّه بن عمرو عن عبد اللّه بن محمّد بن

محاضرات في المواريث، ص: 99

______________________________

عقيل عن جابر بن عبد اللّه قال: «جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالت: يا رسول اللّه هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، و إنّ عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، و لا تنكحان إلّا و لهما مال، قال صلّى اللّه عليه و آله: يقضي اللّه في ذلك، فنزلت آية الميراث، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى عمهما فقال:

«أعط ابنتي سعد الثلثين، و أعط أمهما الثمن، و ما بقي فهو لك» [عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي 8: 242].

و هذا الحديث غير قابل للاستناد إليه، و لا يمكن الاحتجاج به لإثبات حكم شرعي لأنّ أعاظم أصحاب الجرح و التعديل قد أجمعوا على ضعف عبد اللّه بن محمّد بن عقيل، كما ذكر ذلك ابن حجر في (تهذيب التهذيب) [تهذيب التهذيب 6: 13- 15] فإنّهم أجمعوا على أنّه منكر الحديث و أنّهم لا يحتجون بحديثه، و قال ابن حبان فيه: (كان ردي الحفظ و كان يحدّث على التوهم فيجي ء بالخبر على غير سننه فلما كثر ذلك في أخباره وجب مجانبتها و الاحتجاج بضدها) [كتاب المجروحين 2: 3].

فهذا الحديث ساقط سندا و لا يمكن الاحتجاج به إذ لم يروه إلّا هذا الرجل و هو كما ترى.

و أمّا دلالته فهي معارضة لآية أُولُوا الْأَرْحٰامِ*- كما بينا سابقا- و معارضة أيضا لما ورد في الأحاديث المعتبرة فقد روى النسائي في الباب الرابع من الفرائض أربعة أحاديث بطرق مختلفة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أن امرأة أتت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالت: إني تصدقت على أمّي بجارية، فماتت، فرجعت إليّ في الميراث، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «قد آجرك اللّه و ردّ عليك في الميراث» [السنن الكبرى 4: الباب الرابع من الفرائض] فنرى أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يحكم بالنصف للعصبة إذ المفروض أنّها بنت واحدة و لها النصف فلم لا يكون النصف الآخر للعصبة، بل إن النبيّ الكريم يقول لها: «قد آجرك اللّه و ردّ عليك في الميراث» فقد رد لها جميع الجارية نصفا بالفرض و نصفا بالرد. و قد روى

النسائي في نفس الباب روايات اخر كلّها تدل على ذلك.

و روى الشيخ الطوسي قدّس سرّه «عن أبي بكر بن عياش في حديث أنّه قيل له: ما تدرى ما أحدث نوح بن دراج في القضاء إنّه ورّث الخال، و طرح العصبة، و أبطل الشفعة، فقال ابن عياش: ما عسى أن أقول لرجل قضى بالكتاب و السنّة، إن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لما قتل حمزة بن عبد المطلب بعث علي بن أبي طالب عليه السّلام فأتاه علي عليه السّلام بابنة حمزة فسوّغها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الميراث كلّه» [التهذيب 6: 310، ح 64] فهذه الرواية المعتبرة صريحة في أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطى الميراث كلّه لابنة حمزة مع العلم أن عمها العباس بن عبد المطلب كان موجودا و مقتضى القول بالتعصيب إعطاؤها فريضتها النصف، و النصف الآخر لا بدّ من إعطائه لعمها العباس لأنّه عصبة مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطاها جميع المال فرضا وردا.

محاضرات في المواريث، ص: 100

______________________________

فرواية عبد اللّه بن محمّد بن عقيل بالإضافة إلى إجماعهم على ضعف سندها معارضة بروايات معتبرة سندا واضحة دلالة.

و مع ذلك يمكن توجيهها بما يوافق القول بالردّ فيمكن أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد تصرف بحسب ولايته فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيكون الحكم شخصيا في واقعة خاصة لا يمكن تسريته إلى غيرها، و قد احتمل صاحب الوسائل قدّس سرّه كون الحكم في هذه الرواية على وجه الصلح مع رضاء الوارث بذلك و إرادة تأليف قلب العم [الوسائل 26: 88 باب 8 من أبواب موجبات الإرث، ح 8].

إذا هذه الرواية ساقطة سندا و

معارضة دلالة بالروايات المعتبرة و الصريحة مع إمكان حملها على ما ذكرناه، فهي لا تصلح لأن تكون دليلا على التعصيب.

فيبقى الأمر دائر بين العمل بهذين الحديثين الساقطين سندا و دلالة و بين العمل بالآيتين المباركتين مع أن التعارض بينهما بالتباين و لا يمكن الجمع بينهما بوجه فآية أُولُوا الْأَرْحٰامِ* دالة على أن الأقرب للميت أولى بميراثه و أن الميراث للأقرب فالأقرب، و مفاد الحديثين أن العصبات أولى من الأقربين و من ذوي الأرحام، و آية لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ ..* دالة على توريث النساء في كلّ مورد يرث فيه الرجال و حديث ابن طاوس يحرم النساء من الإرث و يخصه بالرجال.

فباعتبار أن الآيتين المباركتين قطعيتي الصدور و واضحتي الدلالة، و الحديثين ساقطين سندا و دلالة، مع ما ورد من أن ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف و باطل لا محيص من طرح هذين الحديثين الموافقين لأحكام الجاهلية، فلم يبق لديهم دليل على القول بالتعصيب.

أمّا القول بالرد فقد دلّت عليه آية أُولُوا الْأَرْحٰامِ* كما بيناه مضافا إلى ما ورد من الأحاديث المعتبرة المستفيضة عن أهل البيت الطاهر عليهم السّلام:

1- منها ما رواه الشيخ قدّس سرّه في كتابيه، و الكليني في الكافي عن أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إن في كتاب علي عليه السّلام أن كلّ ذي رحم بمنزلة الرحم الذي يجر به إلّا أن يكون وارث أقرب إلى الميت منه فيحجبه» [الاستبصار 4: 239. و التهذيب 9: 233. و الكافي 7: 77، ح 1].

و في حديث آخر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا التفت القرابات فالسابق أحق بميراث قريبه، فإن استوت قام كلّ واحد منهم مقام قريبه» [الاستبصار 4: 239. و

التهذيب 9: 233. و الكافي 7: 77، ح 2].

و قد أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باتباع الكتاب العزيز و العترة الطاهرة فيكون القول بالرد هو الحقّ الذي لا محيص عن اتباعه.

في الختام: نكرّر الإشارة إلى أنّنا قد عقدنا هذا الفصل لإبطال دليل القائلين بالتعصيب إتماما للفائدة و إن لم يتعرّض السيد الاستاذ لذلك.

محاضرات في المواريث، ص: 101

مناقشة القول بالتعصيب

ذكرنا أن المستفاد من الآية المباركة أن التقسيم في باب الإرث ليس تقسيما على الإطلاق- بمعنى أن يكون النصف على الإطلاق أو الربع على الإطلاق أو الثلث على الإطلاق- بل إنّما القسمة بالنسبة.

فالمذكور في الكتاب العزيز أن الوارث هم أولوا الأرحام و الأقربون على ما يستفاد من الآيتين المباركتين:

وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* و لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ.

فالوارث منحصر في أولي الأرحام و في الأقربين يأخذ بعضهم ثلثا و بعضهم نصفا و بعضهم سدسا و بعضهم ثلثين .. و هكذا على ما هو مذكور في الآيات المباركة، فالتقسيم يكون تقسيما بالنسبة لا بلحاظ الكسر على الإطلاق و على هذا الفرض لا يتصوّر زيادة في المقام، فالتركة لا تزيد على السهام أبدا.

نعم ورد في الروايات- كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى- أن الزّوجة لا يرد عليها شي ء تأخذ الثمن بلا زيادة و لا نقيصة، كما أن الزّوج لا يرد عليه شي ء إلّا في فرض نادر و هو ما إذا لم يكن للزّوجة أي وارث حتّى الوارث بالولاء، و كان الوارث منحصرا بالإمام فالزوج يرث الزائد، و أمّا في غير هذا الفرض فلا يرد عليه.

محاضرات في المواريث، ص: 102

إذا لا

يتصور في الخارج مورد يكون فيه زيادة عن التركة حتّى نحتاج إلى البحث عن الزائد و أنّه ما ذا نفعل به، بل التقسيم يكون تقسيما بالنسبة في غير الزوج و الزّوجة، و عليه فيكون الردّ الذي ذكره فقهاؤنا و الذي ذكر في الروايات: أن الزائد يرد إليهم و ليس للعصبة إلّا التراب، أو أن العصبة ليس لهم أي شي ء يكون موافقا للآية المباركة، فلا مقتضي للتعصيب من الأوّل. هذا.

و مع الإغماض عما ذكرناه إذا قلنا بأن الآية ظاهرة في ذكر التركة على الإطلاق لا بالإضافة أي أنّه ليس التقسيم تقسيما بالنسبة، فيفرض في التركة زيادة كزيادة السدس في المثال المتقدّم، أو إذا فرضنا أنّه ليس للميت و الدان فالبنت تأخذ النصف و النصف الآخر ليس له صاحب، على هذا التقدير أيضا نلتزم بأن النصف الآخر يرد إلى البنت فقط، و السدس في الفرض الأوّل يرد إلى الجميع- أي إلى الوالدين و البنت- و ذلك لقوله سبحانه وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* فيرثون القدر المفروض بالفريضة و الزائد بالقرابة و ليس للعصبة شي ء، إذ أنّه مع وجود الأقرب كيف تصل النوبة إلى الأبعد، فمع وجود البنت كيف تصل النوبة إلى ابن العم أو العمّ و نحوهم، فالآية المباركة تدلّ على أن الزائد يرد إلى أصحاب الفروض لأنّهم أقرب إلى الميت من العصبة، و لأجل ذلك نجد نفس القائلين بالتعصيب هم أيضا التزموا في فرض عدم وجود عصبة للميت أن الزائد لا يدخل في بيت المال، و إنّما يرد على الورثة، فلو فرضنا أن للميت بنتا واحدة أخذت النصف و لم يكن هناك أحد من العصبة ليرث النصف الآخر قالوا يرد النصف الآخر

على البنت و لا يدخل في بيت المال، لأن البنت أقرب إلى الميت و هي

محاضرات في المواريث، ص: 103

رحمه فيرد عليها. [1]

فإذا كان القرب و كونه رحما موجبا للردّ بحكم الآية المباركة فكيف لا يوجبه عند وجود العصبة؟! و بعبارة اخرى: ما هو الفرق بين ما إذا كان العمّ أو ابن العمّ موجودا و ما إذا لم يكن موجودا إذا التزمنا بأن الآية المباركة شاملة لما هو زائد على الفروض؟! فبعد استدلالهم بالآية المباركة على أن المال يرد على أصحاب الفروض عند عدم وجود عصبة للميت باعتبار أن أصحاب الفروض هم أقرب إلى الميت فيرثون الباقي بالقرابة و لا يعطى إلى بيت المال يقال لهم إن أقربيتهم إلى الميت ثابتة حتّى مع وجود العصبة فهم أولى من العصبة بهذه الزيادة.

و مع غض النظر عما ذكرناه و لنفرض أن ظاهر القرآن الكريم هو التقسيم على الإطلاق لا بالنسبة و لا يمكننا الاستدلال بالآية المباركة يكفينا في ذلك الروايات

______________________________

[1] قال الدكتور وهبة الزحيلي: (فإن لم يكن للميت عصبة و لا ولاء، عملنا بالردّ على ذوي الفروض، فيقدّم على ذوي الأرحام، فإن لم يكن ذو فرض يردّ عليه ورّثنا ذوي الأرحام، لقوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ*، لأن سبب الميراث القرابة، بدليل أن الورّاث من ذوي الفروض و العصبات إنّما ورثوا لمشاركتهم الميت في نسبه، و هذا موجود في ذوي الأرحام، فيرثون كغيرهم) [راجع الفقه الحنبلي الميسر 3: 441. و الفقه الإسلامي و أدلته 10: 740].

و قال في موضع آخر في تعريف الردّ على ذوي الفروض: و أصحاب الفروض النسبية هم من عدا الزوجين فلا يرد عليهما من حيث الزوجية،

لأنّهما لا رحم لهما فلم يدخلا في الآية.

و على هذا حيث لا تستغرق الفروض التركة، و لا عاصب، ردّ الفاضل على كلّ ذي فرض من الورثة بقدره كالغرماء يقتسمون مال المفلس بقدر ديونهم، لقوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ*. و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من ترك مالا فللوارث» .. إلى أن قال: فإن لم يكن للميت إلّا صاحب فرض أخذ الكلّ فرضا وردا، لأنّ تقدير الفروض شرع بسبب المزاحمة، و قد زال هنا، كما لو لم يرث الميت من أصحاب الفروض إلّا أخ لأم، أو أمّ، أو جدة، أو بنت، أو أخت» [نفس المصدر السابق: 444].

محاضرات في المواريث، ص: 104

و السيرة القطعية في زمن المعصومين عليهم السّلام على أن العصبة لا يرثون شيئا، [1] فأهل البيت هم المرجع في تفسير القرآن الكريم و معرفة أحكام اللّه تعالى بمقتضى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ..» و غير ذلك من الأحاديث الدالة على لزوم الرجوع إليهم، فهم المرجع و لا بدّ من الأخذ منهم حتّى في فرض عدم تمكننا من استظهار ذلك من الآية المباركة.

ثمّ إنّه يلزم على القول بالتعصيب لوازم فاسدة لا يمكن الالتزام بها، فلو فرضنا الإغماض عما ذكرناه سابقا و لم يكن هناك رواية فإن القول بالتعصيب باطل وجدانا و لا يمكن الالتزام به فهو مخالف لصريح الآية المباركة مع قطع النظر عن جميع ما ذكرناه و ذلك لأن القول بالتعصيب يستلزم أمرا لا يمكن الالتزام به و هو أن يكون ابن العم مثلا مقدما على الابن في الإرث و يكون حاجبا لإرث البنات أو إرث

البنت بمقدار مع أن الولد لا يكون حاجبا له، فيكون مقام ابن العم أعظم من مقام الولد و هذا غير محتمل أبدا.

فلو فرضنا أن الميت ترك ست بنات و ولدا واحدا بطبيعة الحال يكون المخرج ثمانية لأن الولد بمنزلة بنتين، فمن هذه الثمانية يأخذ الولد ثمنين، و لكل بنت ثمن، فإذا كانت التركة أربعة و عشرين دينارا مثلا يأخذ الولد ستة دنانير و يبقى ثمانية عشر لكل من البنات ثلاثة دنانير.

فلو فرضنا أن الولد غير موجود و انحصر الوارث بالبنات فنصيبهن الثلثان و الثلث الباقي لابن العم، معنى ذلك أن ابن العم يأخذ ثمانية و الستة عشر تنقسم

______________________________

[1] قال حسين الرزاز أمرت من يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام: المال لمن هو للأقرب أو للعصبة؟ فقال عليه السّلام: «المال للأقرب و العصبة في فيه التراب» [الوسائل 26: 64 باب 1 من أبواب موجبات الإرث، ح 3].

محاضرات في المواريث، ص: 105

على ستة بنات فتأخذ كلّ واحدة منهن ثلاثة دنانير إلّا ثلث دينار، فيكون ابن العم حاجبا بالنسبة إلى هذا الثلث، يعني تكون حصة البنت مع الولد أكثر من حصة البنت مع ابن العم، و تكون حصة ابن العم أكثر من حصة الولد و هذا أمر غير محتمل قطعا لقوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* فكيف يكون ابن العم مقدّما على ولد الميت، و الولد لا يأخذ هذا المقدار و ابن العم يأخذه.

و كلّما زاد عدد البنات يزيد النقص في حصصهن و تزيد حصة ابن العم، فإذا فرضنا أن البنات ثمانية مع ولد واحد فتكون الحصص عشرة لا محالة، فإذا كانت التركة ثلاثين دينارا مثلا يأخذ الولد عشرين و هما

ستة دنانير و لكلّ من البنات ثلاث دنانير عشر التركة.

فإذا فرضنا أنّه في نفس هذه الصورة لم يكن ولد و كان مكانه ابن عم، فابن العمّ يأخذ الثلث و هو عشرة، و يبقى عشرون للبنات لكلّ منهن ديناران و نصف، فنقص من كلّ منهن نصف دينار و زيد على حصة ابن العم.

أ فيحتمل هذا؟ أن يأخذ الولد ستة و ابن العمّ يأخذ عشرة؟!! و كلّما زاد عدّد البنات ينقص من حصصهن و يزاد في حصة ابن العمّ، و هذا مقطوع البطلان وجدانا، سواء كانت هناك رواية أم لم تكن دلت الآية المباركة عليه أم لم تدل.

مناقشة القول بالتعصيب ببيان آخر
اشارة

إن اللّه تبارك و تعالى بيّن المواريث في كتابه العزيز فذكر اجتماع الأبوين، و اجتماع أب و أمّ مع البنت، أو مع البنتين و انفرادهما كذلك.

محاضرات في المواريث، ص: 106

و لم يذكر انفراد الأب إذا لم يكن معه أي أحد لا أمّ و لا ولد و لا بنت، كما أنّه لم يذكر الولد الواحد، أو الولدين فإنّه لم يتعرض لذلك.

الذي يستفاد من هذا الترتيب في الآيات المباركة أن عدم الذكر إنّما هو للوضوح، فإنّه سبحانه بعد ما بيّن أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض و أن الأقرب يمنع الأبعد كما في قوله سبحانه لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ فيستفاد أن الأقرب يمنع الأبعد فتدل الآية المباركة على أن الأب إذا كان منفردا يكون تمام المال له، و أن الابن الواحد إذا كان منفردا يكون تمام المال له.

كما يستفاد أيضا أن الولدين بما أنّهما متماثلان و لا يحتمل فضل أحدهما على الآخر، فإذا كانا مجتمعين، أو كان هنا أولاد

كثيرون فيقسّم المال بينهم بالسوية.

فمن هذه الأحكام المستفادة من القرآن الكريم يعلم بوضوح أن البنت الواحدة أيضا كذلك فإذا كانت منفردة لا تحتاج إلى جعل فرض لها، بل يكون تمام المال لها، و أمّا إذا كانت مع الولد فللذكر مثل حظ الأنثيين- كما هو مذكور في الآية المباركة.

فالولد وحده يرث تمام المال و البنت وحدها ترث تمام المال، فإذا اجتمعا تكون حصته ضعف حصة الانثى.

حكم الأم أيضا يستفاد من ذلك، فإن جعل الثلث أو السدس للأم إنّما هو مع ارتباطها مع غيرها، أمّا إذا كانت وحدها فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فترث تمام المال.

و كذلك البنتان فهما متماثلتان و لا يحتمل التفاضل بينهما أيضا يكون تمام المال بينهما.

محاضرات في المواريث، ص: 107

فمن جميع ذلك يظهر بوضوح أن الفرائض المذكورة في القرآن الكريم من السدس و الثلث و الثلثين و النصف إنّما هي مع اجتماع أصحابها مع بعضهم، كما إذا كانت البنت- مثلا- مع الأب أو مع الأم فلها النصف مما ترك لا أنّه على الإطلاق حتّى إذا كانت منفردة، و كذلك البنتان مع الاجتماع لهما الثلثان لا في حالة انحصار الوارث بهما.

ففي حال وحدة الوارث أو تعدّده مع عدم احتمال فضل أحدهما على الآخر كما في الولدين أو في البنتين الإرث إنّما يكون بالقرابة لا بالفرض، فإذا كان الوارث بنتا واحدة فقط فالإرث إنّما هو بالقرابة، و النصف المجعول لها إنّما هو فيما إذا كان لها شريك.

هذا هو الذي يتحصل من الآيات المباركة بعد التأمل فيها، فالفروض المذكورة إنّما هي في فرض الاجتماع لا في فرض الانفراد، فإذا انفرد الأب، أو انفردت الأم، أو انفرد الولد أو البنت الإرث إنّما يكون بالقرابة لا بالفرض.

زيادة إيضاح:

نقول زيادة على ما تقدم: إن المال الواحد إذا فرض لأشخاص متعددين على حسب الحصص المشاعة بينهم فكان المال زائدا على الحصص.

فإمّا أن يكون تمام المال من الأوّل لهم ثمّ تبيّن كيفية التقسيم على حصص معينة.

و إمّا أن لا يكون المال لهم بل تكون الحصص لهم فقط.

و نمثل لذلك بالوصية:

فتارة يقول ما تركته من الدنانير أو من الأغنام أو نحو ذلك: نصفه لولدي

محاضرات في المواريث، ص: 108

الأكبر، و ربعه لولدي الأوسط، و ثمنه لولدي الأصغر.

ففي مثل ذلك لم يجعل لهم من الأوّل إلّا نصفا و ربعا و ثمنا، فيبقى ثمن المال من الدنانير أو الأغنام خارجا عن مورد الوصية.

فلو فرضنا أن الأغنام ثمانية يعطى أربعة منها إلى الأكبر، و اثنان للأوسط، و واحد لأصغر. و يبقى واحد خارجا عن مورد الوصية، فيبقى في ملك الميت فينتقل إلى الورثة إلّا أن يكون الموصي قد عين له مصرفا، فحينئذ يكون خارجا عن محل الكلام.

و تارة من الأوّل يوصي أن يكون تمام هذا المال لولده الثلاثة و بعد ذلك يبيّن كيفية التقسيم، فيقول: ما أتركه من النقود أو ما أتركه من الأغنام كلّها لولدي الثلاثة على أن تقسّم بينهم بهذه الكيفية: نصفها للأكبر، و ربعها للأوسط، و ثمنها للأصغر، فإذا قسمنا المال كذلك يزيد ثمن فيبقى خروف- مثلا- هذا الخروف الزائد الذي هو ثمن المال أيضا داخل في الوصية، فهو أيضا نصفه للأكبر و ربعه للأوسط، و ثمنه للأصغر، و يزيد منه ثمن هذا الثمن يقسم أيضا بذلك الترتيب و هكذا الكسور تلزم إلى الآخر.

فمورد كلامنا الذي أشرنا إليه (التقسيم بالنسبة) إنّما هو هذا المورد لا المورد الأوّل، ففي المورد الأوّل الكلام ظاهر في أن الولد

الأكبر له نصف هذا المال، و الأوسط له ربعه، و الأصغر له ثمنه، و الثمن الباقي يبقى على ملك الميت لأنه خارج عن مورد الوصية.

و أمّا على الفرض الثاني الذي أوصى بأن يكون تمام المال لهم و يقسم على هذا النحو يكون نظير ما نسب إلى أمير المؤمنين (عليه أفضل السلام) في قسمة

محاضرات في المواريث، ص: 109

الأباعر، أوصى بأن يكون سبعة عشر بعيرا كلّها لهؤلاء الثلاثة على أن تقسم بهذا النحو، نصف و ثلث و تسع، فإذا قسمت يبقى شي ء و الباقي أيضا يقسم و هكذا.

ففي مقامنا أيضا المستفاد من الآيات المباركة أن الإرث إنّما هو للأقرب من الأرحام وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* و كذلك قوله سبحانه لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ فالمستفاد من هاتين الآيتين أن جميع ما تركه الميت إنّما هو للوارث القريب، فإذا عين أن النصف لهذا مثلا و السدسين للوالدين يعني أن الميت ترك بنتا واحدة و ترك والدين المال يكون جميعه لهم لأنّهم الأقرب و الأولى بميراث الميت، فالتقسيم يكون تقسيما بهذه النسبة.

فمورد التقسيم بالنسبة الذي هو موافق لظاهر الكلام إنّما هو فيما إذا فرض أن المال جميعه لهم فحتى إذا بقي منه شي ء الباقي أيضا يقسم كذلك.

و معنى التقسيم بالنسبة هو أن يوحد المخرج و تلاحظ النسبة بين جميع الكسور.

هذا ملخص ما ذكرناه سابقا من التقسيم بالنسبة، و لا نلتزم به في جميع الموارد، و إنّما نلتزم به في الموارد التي. دلّت القرينة على أن تمام المال لهم- كما في مسألة تقسيم أمير المؤمنين عليه السّلام للإبل السبعة عشر- و أمّا في

سائر الموارد فإن ظاهر الكلام هو القسمة على الإطلاق بأن يعطي نصف المال و ثلثه و هكذا، فيكون الزائد خارجا عن مورد القسمة.

محاضرات في المواريث، ص: 111

القسم الثالث نقص التركة عن الفروض و البحث في الخلاف في مسألة العول
اشارة

محاضرات في المواريث، ص: 113

الكلام في العول

إذا فرضنا أن الفروض زادت على التركة كما إذا فرضنا أنّ امرأة تركت بنتا واحدة و أبوين و زوجا، فللبنت النصف، و لكل من الأبوين السدس، و للزوج الربع، فطبعا هذه الفروض تزيد على التركة، لأن المال الواحد لا يمكن تقسيمه على نصف و سدسين و ربع لأن نصف سدس يكون هنا زائدا على التركة.

و هكذا إذا فرضنا بنتين و أبوين و زوج، فللبنتين الثلثان و للأبوين الثلث فهذا مجموع التركة و يبقى ربع الزوج زائد على التركة لا محالة.

فالفروض تزيد على التركة كلما كان هناك زوج أو زوجة الزوج يأخذ الربع و الزوجة تأخذ الثمن.

و على كلّ حال إذا زادت الفروض على التركة كما في المثال المتقدّم، البنتان لهما الثلثان و الأبوان لهما الثلث فهذا تمام المال، فأين يكون ربع الزوج؟

ففي مثل ذلك ذهب مخالفونا إلى العول [1] و أن النقيصة تقع على الجميع بنسبة

______________________________

[1] قال الدكتور و هبة الزحيلي: (العول لغة: الجور و الظلم و تجاوز الحدّ، و اصطلاحا: زيادة في السهام و نقص في الانصباء).

و قال في مشروعيته: (أوّل من حكم بالعول: عمر بن الخطاب (رض) فقد وقعت في عهده مسألة

محاضرات في المواريث، ص: 114

سهامهم فينقص من كلّ واحد منهم على نسبة حصته.

و لكنّ أصحابنا ذهبوا إلى أن النقص يرد على البنت الواحدة أو على البنتين- في مفروض المثالين- و لا يرد نقص على الزوج أو الزّوجة و لا على الأبوين في شي ء من الموارد في الطبقة الاولى.

و إذا كان النقص في الطبقة الثانية فهو يرد على المتقربين بالأبوين أو الأب فقط، و لا يرد على المتقربين بالأمّ.

دليل المخالفين على صحة العول

استدل مخالفونا على أنّه إذا كان المستحقون لهذا المال يزيد حقهم على

المال ليس هنا ترجيح لأحدهم فيقسّم النقص على الجميع، كما في غرماء الميت أو المفلس، فإذا فرضنا أن الميت مدين لواحد بعشرة، و لآخر بعشرين، و لثالث بثلاثين، فالمجموع ستّون، و التركة ثلاثون دينارا فقط فمقتضى القاعدة تقسيم هذه الثلاثين بينهم على نسبة حصصهم.

هذا هو مقتضى القاعدة: مال واحد متعلّق لحقوق أشخاص لا يفي بحقوقهم

______________________________

ضاق أصلها عن فروضها، و هي: زوج و أختان، أو زوج و أمّ و أخت، فشاور الصحابة فيها، فأشار العباس أو زيد بن ثابت إلى العول، و قال: (أعيلوا الفرائض) فأقره عمر على ذلك و قضى به، و تابعه الصحابة عليه، و لم ينكره إلّا ابن عباس بعد وفاة عمر، فسأله رجل عما يصنع بالفريضة إذا عالت، فقال:

أدخل النقص على من هو أسوأ حالا، و هن البنات و الأخوات فإنّهن ينقلن من فرض مقدّر إلى فرض غير مقدر، و قال: هلّا تجتمعون حتّى نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين، إن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في مال نصفين و ثلثا) [راجع الفقه الحنبلي الميسر 3: 442. و مستدرك الحاكم 4: 340. و سنن البيهقي 6: 253. و أحكام القرآن للجصاص 3: 22.]

محاضرات في المواريث، ص: 115

فطبعا يكون الضرر متوجها إليهم على حسب نسبة أموالهم: فمن يطلب ثلاثين يعطى له خمسة عشر، و من يطلب عشرين يعطى عشرة، و من يطلب عشرة يعطى خمسة، فالمجموع ثلاثون.

فهم قاسوا الإرث على هذا الباب، و قالوا باعتبار أن أشخاصا متعددين لهم حقّ في هذا المال بنسبة فرائضهم فيدخل النقص عليهم بهذه النسبة.

فإذا فرضنا أن ما تركه الميت هو اثنا عشر دينارا و له بنت واحدة فستة لها طبعا، و له والدان فلهما

أربعة من اثني عشر فالمجموع يكون عشرة، و فرضنا أن للميت زوجا و هو يأخذ الربع، و ربع الاثني عشر ثلاثة طبعا، فيكون المجموع ثلاثة عشر، فينقص من التركة دينار واحد، و هذا النقص يوزع على الجميع، فالواحد يقسّم ثلاثة عشر جزءا ينقص من كلّ من الورثة بنسبة حصته:

فالبنت ينقص منها ستة أجزاء من ثلاثة عشر جزءا، و الزوج ينقص منه ثلاثة أجزاء من ثلاثة عشر جزءا، و كلّ من الوالدين ينقص منه جزءان من ثلاثة عشر جزءا من الواحد.

فيقسّم بينهم على هذا النحو كما في غرماء الميت و المفلّس على ما ذكرنا.

محاضرات في المواريث، ص: 116

مناقشة ما استدلوا به على صحة العول

و لكنّ هذا القياس واضح البطلان، فإن كلامنا في المقام في ثبوت الحقّ، و الكلام في مسألة الغرماء في أداء الحقّ بعد ثبوته.

و بعبارة أوضح: إذا كان أحد الغرماء يطلب الميت ثلاثين دينارا فهذا لا إشكال فيه في أصل الثبوت، و كان الثاني يطلبه عشرين دينارا و الثالث يطلبه عشرة دنانير، و لكن التركة لا تفي بذلك لأنها ثلاثون دينارا، فالنقص إنّما هو في مقام الأداء لا في مقام ثبوت الحقّ، إذ المفروض أن الحقّ ثابت لا شكّ فيه، و إنّما المتعذّر هو الأداء الخارجي لأن تركة الميت لا تفي بالديون.

و أمّا في مقامنا فالكلام إنّما هو في أصل ثبوت الحقّ، و ذلك لأن هذا الجعل بنفسه غير معقول.

فلو أوصى شخص بأن يعطى ثلثا أغنامه لزيد، و نصفها لعمرو، و ربعها لخالد، و ثمنها لبكر. يقال هذا الرجل مجنون لأن المال الواحد لا يكون له ثلثان و نصف و ربع و ثمن، فإذا كان هذا التناقض في كلام واحد يسقط و تبطل الوصية، و إن كان في

كلام متعدد يكون متعارضا، إطلاق كلّ من الوصايا يتعارض مع إطلاق الاخرى لأنّ الجمع بينها غير معقول.

فمثل هذه الوصية يحكم ببطلانها من الأوّل إن كانت في كلام واحد. و أمّا إن

محاضرات في المواريث، ص: 117

كانت في عبارات منفصلة يكون الإطلاق في كلّ واحد معارضا بالإطلاق في الآخر، فما دلّ على أن البنتين تأخذان الثلثين على الإطلاق سواء كان هنا أبوان أم لم يكن أبوان، و سواء كان زوج أم لم يكن، و كذلك الأبوان يأخذ كلّ واحد منهما السدس سواء كان هنا بنتان أم لم تكونا، و سواء كان هنا زوج أم لم يكن .. و هكذا.

فالمعارضة إنّما هي بالإطلاق و التقييد في جميع الأطراف بأن يقيد الثلثان بعدم غيرها، و السدسان بعدم غيرها .. و هكذا فهذا تقييد بلا موجب يحتاج إلى دليل.

فالالتزام بالعول إلغاء لجميع الإطلاقات، و ليس لديهم أي دليل على الإلغاء سوى ما ذكروه من القياس على مسألة الغرماء، و قد تقدّم منا بيان الفارق بين مسألتنا و مسألة غرماء الميت أو المفلس، فهذا القياس باطل من أساسه فلا بدّ من التماس دليل مقيّد حيث أن الأخذ بالإطلاق غير ممكن- كما تقدّم- للتناقض و التعارض، و ليس لنا إلّا التمسك بأحاديث أهل البيت الطاهر عليهم السّلام حيث قالوا: إنّما يدخل النقصان على الذين لهم الزيادة من الولد و الأخوات من الأب و الأم أو من الأب فقط.

مناقشة العول بنحو آخر غير ما تقدّم

قلنا: إن فقهاءنا (قدّس اللّه أسرارهم) ذهبوا طبقا لما ورد عن أهل البيت الطاهر عليهم السّلام من الأحاديث التي أنكروا فيها العول، و في بعض الروايات أن الأصل في ذلك هو تقسيم عمر بن الخطاب عند ما التبست عليه الفرائض فلم يدر

أيهم قدم

محاضرات في المواريث، ص: 118

اللّه و أيهم أخر، و لذا فإنّه أورد النقص على الجميع. [1]

______________________________

[1] فقد روى عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود، قال: (دخلت أنا و زفر بن أوس بن الحدثان على ابن عباس .. فقال له زفر: يا ابن عباس من أوّل من عال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب (رض)، قال:

و لم؟ قال: لما تدافعت عليه و ركب بعضها بعضا قال: و اللّه ما أدري كيف أصنع بكم!! ما أدري أيكم قدّم اللّه و لا أيكم أخّر و ما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن أقسمه بالحصص، فأدخل على كلّ ذي حقّ ما دخل عليه من عول الفريضة). [راجع المستدرك للحاكم 4: 340، و قد صححه على شرط مسلم و نقله عن أبي الشيخ في الفرائض، و البيهقي في السنن، و كنز العمال 11: 27- 28، ح 30489. و الدر المنثور 2:

127. و الوسائل 26: 78: ب 7 من أبواب موجبات الإرث، ح 6. و الكافي 7: 79- 80. و هناك إختلاف في بعض ألفاظ الحديث] فالذي يظهر من هذه الرواية هو أن عمر كان يعلم بأن هناك من قدّمه اللّه و هناك من أخّره و أنّه لا بدّ من إدخال النقص على بعض دون بعض إلّا أنّه لما اشتبه عليه الأمر فهو لا يدري أيهم قدّم اللّه و أيهم أخّر التجأ إلى أمر كان يحسبه صحيحا و هو إدخال النقص على الجميع.

و لكن باب مدينة علم الرسول علي بن أبي طالب عليه السّلام لا يخفى عليه ذلك فقد روى يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه

السّلام .. يا أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها لو كنتم قدّمتم من قدّم اللّه و أخّرتم من أخّر اللّه و جعلتم الولاية و الوراثة حيث جعلها اللّه ما عال وليّ اللّه و لا عال سهم من فرائض اللّه و لا اختلف اثنان في حكم اللّه و لا تنازعت الامّة في شي ء من أمر اللّه إلّا و عندنا علمه من كتاب اللّه، فذوقوا و بال أمركم و ما فرّطتم فيما قدّمت أيديكم ..» [الكافي 7: 78].

و لذا فإنّا نجد أن ابن عباس تلميذ أمير المؤمنين عليه السّلام في الرواية السابقة يقول لزفر: (و أيم اللّه لو قدّم من قدّم اللّه و أخّر من أخّر اللّه ما عالت فريضة، فقال له زفر: و أيّهم قدّم و أيهم أخّر؟ فقال: كلّ فريضة لا تزول إلّا إلى فريضة فتلك التي قدّم اللّه، و تلك فريضة الزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شي ء، و الزوجة لها الربع فإذا دخل عليها ما يزيلها عنه صارت إلى الثمن لا يزيلها عنه شي ء، و الأمّ لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس و لا يزيلها عنه شي ء، و أمّا التي أخّر ففريضة البنات و الأخوات لها النصف و الثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لهن إلّا ما بقي ..)

فهذه الرواية و غيرها من الروايات دلت على أن الفرائض التي بينها اللّه تعالى في كتابه العزيز على قسمين:

القسم الأوّل: كلّ من فرض له فرضين في كتاب اللّه تعالى، و هم: الزوج و الزّوجة و الأمّ و كلالتها و هؤلاء هم الذين قدّمهم اللّه، فإذا زال أحدهم عن فرضه الأوّل ثبت على الفرض

الثاني لا يزيله عنه شي ء.

محاضرات في المواريث، ص: 119

قلنا إيراد النقص على الجميع يحتاج إلى دليل و لا دليل عليه، فإن الكسور التي تزيد على الأصل إن كانت في كلام واحد فيعدّ هذا من التهافت في الكلام و لا ينعقد له ظهور من الأوّل فيلغى كأنه لم يكن و ذلك كما إذا أوصى زيد و قال: داري هذه بعد وفاتي نصفها لولدي الأكبر، و ربعها للأوسط و ثلثها للأصغر، فإن هذا غير ممكن النصف و الثلث و الربع يزيد على المال لا محالة، فيكون تهافتا في الكلام.

و كذلك إذا أقر فقال: نصف داري هذا لزيد و ربعه لعمرو و ثلثه لخالد و ثمنه لفلان، هذا الإقرار لا يسمع منه لأنّه تهافت في الكلام.

و إذا فرضنا أنّه في كلام منفصل ينعقد ظهور لكلّ واحد واحد و لكنها تكون متعارضة لا يمكن الأخذ بجميع هذه الإطلاقات، فلا بدّ من الالتزام بالتقييد إمّا في بعضها و إمّا في الجميع على حسب ما يقتضيه الدليل.

و أمّا إلغاء الظهور- و لو في الجملة- بالنسبة إلى النصف أو الثلث فيعطى لمن له النصف أقل من النصف و لمن له الثلث أقل من الثلث و هكذا. هذا إلغاء لظهور الكلام بلا أي قرينة، لأنّ التعارض إنّما هو بالإطلاق لا في أصل المقدار فلو فرضنا أنّنا رفعنا اليد عن إطلاق واحد منها يرتفع التعارض فلا بدّ من التدارك بالتقييد، لا التدارك بإيراد النقص على الجميع المخالف لظاهر الكلام بلا موجب و بلا دليل.

و على هذا لا بدّ من الرجوع إلى المقيّد و أنّه هل يوجد هنا مقيد أم لا؟

فإذا لم يكن هناك مقيد تسقط جميع هذه الإطلاقات و لا بدّ من الرجوع

إلى

______________________________

القسم الثاني: من يكون له فرض واحد و ليس له فرض غيره فإذا زال عن فرضه لم يكن له إلّا ما بقي و هؤلاء هم الولد و البنات و الأخوة و الأخوات من الأب و الأمّ أو من الأب فقط.

محاضرات في المواريث، ص: 120

أصل آخر.

و قد ورد المقيّد في رواياتنا فقد دلّت الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام على أن الزوجين لا يرد عليهما نقص، فهما يأخذان نصيبهما و لا ينقص منهما أي شي ء، فهذا يبقى على إطلاقه. و كذلك ورد بالنسبة إلى الأبوين فهذا الإطلاق أيضا يبقى على حاله.

إذا يرد النقص على البنت الواحدة و البنتين، إذ لم يرد فيهما ما يدلّ على عدم ورود النقص عليهما، فطبعا يرد النقص على البنت الواحدة أو البنتين، فإذا اجتمعت البنت مع الأبوين و الزوج يدخل النقص على البنت لأن الإطلاق في الباقي محفوظ فيرفع اليد عن إطلاق قوله سبحانه أنّها تأخذ النصف إذا كانت واحدة فهي في هذه الصورة لا تأخذ النصف بل أقل من النصف، و هكذا بالنسبة إلى البنتين إذا اجتمعتا مع الأبوين و الزوج أيضا يرفع اليد عن إطلاق أن لهما الثلثان و يرد النقص عليهما.

و هكذا الكلام في الطبقة الثانية و تفصيل الكلام عند البحث عن اجتماع هذه الفروض إن شاء اللّه تعالى فلا نلتزم لا بالتعصيب و لا بالعول.

على أنّه يجري نظير ما ذكرناه في التعصيب من اللوازم الفاسدة كما في زيادة إرث ابن العم على إرث الولد في بعض الفروض ممّا هو غير محتمل و باطل جزما.

فيجزي نظير ذلك في العول أيضا، لأنّ لازم ذلك أن تكون البنت تأخذ أكثر من نصيب الولد مع أن الرجال لهم

فضل على النساء بنص الكتاب العزيز الرِّجٰالُ

محاضرات في المواريث، ص: 121

قَوّٰامُونَ عَلَى النِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ «1» و قوله تعالى وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجٰالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ. «2» [1]

فيعلم من ذلك أن الذكر لا يكون أقل حظا من الانثى، و بناء على العول يلزم أن يكون الولد أقل حصة من البنت، فلو فرضنا أن امرأة ماتت و لها ولد و أبوان و زوج، و لنفرض أن تركتها اثنا عشر دينارا فبطبيعة الحال الأم تأخذ السدس و هو اثنان، و الأب يأخذ السدس أيضا فالمجموع أربعة، و الزوج يأخذ الربع ثلاثة، فيكون مجموع حصة الأبوين مع الزوج سبعة دنانير من اثني عشر دينارا، و تبقى خمسة دنانير للابن.

فإذا فرضنا عين هذا الفرض و لكن بدل الولد بنت واحدة الزوج يأخذ ثلاثة و الأبوان يأخذان أربعة فالمجموع سبعة و البنت تأخذ النصف ستة، فيصير ثلاثة عشر فينقص واحد، فإذا أوردنا هذا النقص على الجميع يكون ستة أجزاء من ثلاثة عشر جزءا تنقص من حصة النبت، و ينقص جزءان من ثلاثة عشر جزءا من كلّ من الأب و الأم، و ثلاثة من ثلاثة عشر جزءا تنقص من حصة الزوج.

______________________________

[1] و قد دلت الأحاديث المستفيضة على ذلك: منها ما رواه بكير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سأله رجل عن أختين و زوج، فقال عليه السّلام: «النصف و النصف، فقال الرجل: أصلحك اللّه قد سمّى اللّه لهما أكثر من هذا لهما الثلثان، فقال: ما تقول في أخ و زوج؟ فقال: النصف و النصف، فقال: أ ليس قد سمّى اللّه المال فقال:

وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ» [الكافي 7: 103] و

قد روى بكير أيضا عن أبي جعفر عليه السّلام- في حديث- قال: «و المرأة لا تكون أبدا أكثر نصيبا من الرجل لو كان مكانها» [الوسائل 26: 109 باب 6 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، ح 2]

______________________________

(1) النساء: 34.

(2) البقرة: 228.

محاضرات في المواريث، ص: 122

فتكون حصة البنت ستة إلّا ستة أجزاء من ثلاثة عشر يعني خمسة و نصفا و شيئا زائدا على النصف، فصارت حصة البنت أزيد من حصة الولد، لأنّ في فرض كونه ولدا يأخذ خمسة دنانير، و إذا فرضناها بنتا تأخذ أكثر من خمسة و نصف، و هذا غير محتمل في نفسه جزما، فالعول باطل جزما، و أمّا قياسه بمسألة الدين فهو قياس مع الفارق كما مرّ عليك تفصيل ذلك.

محاضرات في المواريث، ص: 123

الفصل الثاني: موانع الإرث

اشارة

تقدّم الكلام في موجبات الإرث إجمالا و أن ما يوجب الإرث إمّا سبب و إمّا نسب.

و الآن يقع الكلام في موانع الإرث، يعني إذا كان الموجب للإرث موجودا من البنوّة أو الأبوّة أو الزّوجية للميت و كان هنا مانع من الإرث فإن الموجب لا يؤثر أثره فلا يرث الوارث عند وجود المانع، فالموجب إنّما يؤثر أثره فيما إذا لم يكن هناك مانع و إذا وجد المانع فلا أثر للموجب.

و الموانع عدّة أمور

محاضرات في المواريث، ص: 125

المانع الأوّل الكفر

اشارة

و الكلام فيه يقع في مسائل:

فتارة يكون الميّت مسلما، و اخرى يكون كافرا، و على الثاني فإمّا أن يكون الكافر كافرا أصليا، و إمّا أن يكون مرتدا.

و المرتد إمّا أن يكون ملّيا، و إمّا أن يكون فطريا.

فهنا أربع مسائل:

المسألة الأولى: في إرث الكافر من المسلم.

إذا كان الميت مسلما فلا يرثه الكافر، و لو كان من الطبقة الاولى.

فلو فرضنا أن الميت مسلم و لكن ابنه كافر و للابن ابن مسلم، أو له أخ مسلم أو ابن عم مسلم في الطبقات المتأخرة فالمسلم الأبعد يرث و يحجب الكافر الذي هو أقرب منه إلى الميّت، و ذلك للنصوص [1] التي لا يبعد القول بتواترها في أن الكافر لا يرث، و في بعضها: «أهل ملّتين لا يتوارثان» [2] فالكافر لا يرث من مسلم

______________________________

[1] راجع الوسائل 26: 11 و ما بعدها باب 1 من أبواب موانع الإرث فالأحاديث مذكورة في ذلك الباب نذكر منها الحديث الثاني عن الحسن بن صالح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «المسلم يحجب الكافر و يرثه، و الكافر لا يحجب المسلم و لا يرثه» و غير ذلك من الروايات المتضافرة الدالة على ذلك.

[2] فعن جميل و هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال فيما روى الناس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا يتوارث أهل

محاضرات في المواريث، ص: 126

و لو كان قريبا منه و يرثه المسلم و لو كان بعيدا عنه.

و الحكم متفق عليه بين المسلمين من الخاصة و العامّة، لا خلاف في هذه المسألة.

فلو فرضنا أنّه لا يوجد وارث مسلم في جميع الطبقات ينتقل الإرث إلى الإمام عليه السّلام فيكون من ميراث من لا وارث له بالرغم من وجود القريب الكافر.

فهذه

المسألة مما لا إشكال فيها و قد دلّت الروايات الكثيرة على ذلك.

المسألة الثانية: في إرث المسلم من الكافر.

اشارة

و أمّا إذا كان الميت كافرا و الوارث مسلما فالمسألة محل خلاف بيننا و بين العامّة:

فذهب العامّة إلى أن المسلم أيضا لا يرث الكافر و استدلوا على ذلك بالنبويّ:

«أهل ملتين لا يتوارثان».

فالنتيجة على رأيهم أن الكافر لا يرث المسلم، و المسلم لا يرث الكافر، فليس هنا توارث من الجانبين [1].

و لكن رواياتنا مستفيضة في أن المسلم يرث الكافر و أنّ الإسلام لم يزده إلّا عزا و شرفا. [2]

______________________________

ملتين، قال: نرثهم و لا يرثونا إن الإسلام لم يزده في حقّه إلّا شدّة» و في رواية اخرى «إن الإسلام لم يزده إلّا عزّا في حقّه». نفس المصدر السابق، 26: 13 و 15، ح 6 و 14 و 17 كلّها بهذا المضمون».

[1] راجع المعاني البديعة 2: 177. و السنن الكبرى للنسائي 4: 80- 82. و الجامع الكبير للترمذي 3: 609- 611. و تحفة الأحوذي 6: ح 2189، و غيرها من الكتب الفقهيّة السنيّة.

[2] الوسائل 26: 13 باب 1 من أبواب موانع الإرث، فقد وردت في هذا الباب روايات بهذا المضمون نذكر منها ح 6: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يتوارث أهل ملتين نحن نرثهم و لا يرثونا إن اللّه عزّ و جلّ لم يزدنا بالإسلام إلّا عزّا».

محاضرات في المواريث، ص: 127

فهم ملتزمون بأنّ الكافر يرث من الكافر، و هنا قالوا: بأنّ المسلم لا يرث من الكافر، فيلزم من ذلك أن يكون الإسلام مانعا من الإرث و الحال أنّ الكفر ليس بمانع، و هو لازم فاسد، لأن الإسلام لم يزده إلّا عزّا و شرفا، و أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم: «أهل ملتين لا يتوارثان» فهو و إن كان نفي للتوارث من الجانبين إلّا أن الروايات المعتبرة دلّت على أن المراد منه نفي الإرث من جانب واحد لا نفي الإرث من كلّ جانب، فإرث المسلم من الكافر غير منفي، فلو مات الكافر يرثه المسلم و لو كان بعيدا، فلو كان له ابن كافر، و ابن ابن مسلم، أو أخ مسلم، أو ابن عمّ، أو عم مسلم، فهل يحجب المسلم الكافر فيكون الإرث للمسلم؟ أو أن الكافر يتقدّم عليه؟ صرح أصحابنا بأن المسلم يحجب فيكون الإرث له خاصة و إن كان بعيدا و كان الوارث الكافر قريبا.

و قد دلّت على ذلك غير واحد من الروايات: رواية حسن بن صالح «1»، و المرفوعة، و رواية عبد الرحمن بن أعين «2» التي يأتي الكلام فيها قريبا إن شاء اللّه تعالى.

لكن هذه الروايات كلّها ضعاف لا يمكن الاعتماد عليها و الاستدلال بها.

و العمدة في ذلك بعد الإجماع المحقّق- على ما ذكروه- ما دل من الروايات على أن الكافر إذا أسلم قبل القسمة فالميراث له، [1] و إن أسلم بعد القسمة فلا حق له.

______________________________

[1] الوسائل 26: 20 باب 3 من أبواب موانع الإرث، ح 1. عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل مسلم مات و له أمّ نصرانية و له زوجة و ولد مسلمون، فقال: «إن أسلمت أمه قبل أن يقسّم ميراثه

______________________________

(1) الوسائل 26: 12 باب 1 من أبواب موانع الإرث، ح 2.

(2) نفس المصدر 26: 12 باب 1 من أبواب موانع الإرث، ح 4.

محاضرات في المواريث، ص: 128

و الروايات الواردة في الإسلام قبل القسمة على قسمين: فمنها ما دلّ على أنّه إذا أسلم

قبل القسمة فله ميراثه، «1» فليس في هذا القسم من الروايات دلالة على الحجب، و لا على عدمه بل له ميراثه، يفرض أنّه وارث فيأخذ ميراثه، فإن كان معه شريك يأخذ حصته، و إن لم يكن معه شريك يأخذ تمام المال.

و القسم الآخر من هذه الروايات «2» قال فيها عليه السّلام: «إن أسلم قبل القسمة فله الميراث- الميراث كله له- و إن أسلم بعد القسمة فلا حق له».

فالمفروض في هذه الرواية أن الميت مسلم و كان له أولاد كفرة أو ولد واحد كافر و له أخوة مسلمون- و كلامنا كما ذكرنا في الكافر الأصلي- ففي مثل ذلك بما أن الكافر و هو ولد المسلم لا يرثه- كما تقدّم- فطبعا يكون الوارث هم الأخوة الذين هم في الطبقة الثانية، يعني الكافر في الطبقة الأولى و المسلمون في الطبقة الثانية، ففي مثل ذلك إذا أسلم الولد الكافر قبل القسمة فتمام المال له لأنّه في الطبقة الاولى فيحجب الأخوة، و إن أسلم بعد القسمة فليس له أي شي ء انتقل المال إلى أخوة الميت لأنّه عند قسمة المال كان باقيا على كفره.

و لكن هذا الفرض نادر جدا أي وجود كافر أصلي أسلم هو و أخوته، و ابنه لم

______________________________

اعطيت السدس»، قلت: فإن لم يكن له امراة و لا ولد و لا وارث له سهم في الكتاب مسلمين و له قرابة نصارى ممن له سهم في الكتاب لو كانوا مسلمين، لمن يكون ميراثه؟ قال: «إن أسلمت أمه فإن ميراثه لها، و إن لم تسلم أمّه و أسلم بعض قرابته ممن له سهم في الكتاب فإن ميراثه له، فإن لم يسلم أحد من قرابته فإن ميراثه للإمام».

______________________________

(1) الوسائل 26: 21 ب

3 من أبواب موانع الإرث ح 2 عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أسلم على ميراث قبل أن يقسّم فله ميراثه، فإن أسلم و قد قسّم فلا ميراث له».

(2) الوسائل 26: 22 عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يسلم على الميراث قال: «إن كان قسّم فلا حقّ له، و إن كان لم يقسّم فله الميراث».

محاضرات في المواريث، ص: 129

يسلم و بقي على كفره، و هكذا كلّ ما كان المقدّم في الإرث كافرا و المؤخر مسلما، كما إذا فرضنا أن للميت ولدا كافرا و أولاد أولاد مسلمين. هذا الفرض لعله بعيد الوجود أو أنّه لم يتحقّق، و أمّا إذا كان الميت كافرا فهذا كثير الوجود يموت الكافر و جميع أقربائه كفرة من يتقرب إليه مع الواسطة أو بدون واسطة كلهم كفرة، ففي مثل هذه الصّورة إذا أسلم من في الطبقة المتأخرة كأخيه مثلا أو ابن ابنه إذا أسلم قبل القسمة فيكون تمام المال له، و إذا أسلم بعد القسمة ليس له أي شي ء، لأنه في الطبقة المتأخرة، و هذا كثير الوجود، و شمول الرواية المعتبرة لمثل هذا الفرض لعله هو المتيقن.

فإذا تدلنا هذه الصحيحة على أن من أسلم في الطبقة المتأخرة و كان الورثة في المرتبة السابقة كلّهم كفرة يكون الإرث بتمامه له، و إن لم يسلم حتّى قسم المال لم يكن له أي شي ء، فإذا كان الإسلام قبل القسمة أوجب أن يكون تمام المال له، فإذا فرضنا أنه كان مسلما من الأوّل فيكون تمام المال له بطريق أولى.

نعم إطلاق هذه الرواية يشمل ما إذا كان في طبقة قبله مسلم أيضا أو كان في طبقته أيضا مسلم فيكون المال مشتركا بينهما،

أو يكون المال لمن تقدّم.

و هذا الإطلاق من هذه الجهة نقيده بأدلة اخرى و أن المسلم في طبقة سابقة يتقدّم على المسلم في طبقة لاحقة و يحجبه، و إذا كان مساويا له في الطبقة يقسم المال بينهما، فإطلاق الرواية من هذه الجهة لا بدّ من رفع اليد عنه.

و أمّا إذا كان السابق عليه في الطبقة كافرا نأخذ بإطلاقه، و مقتضى الإطلاق أن يحجب المسلم الكافر و يكون المسلم هو الوارث و إن كان بعيدا.

و هذا الحكم متسالم عليه بينهم و هو الصحيح.

محاضرات في المواريث، ص: 130

أمّا إذا فرضنا أن الكافر ليس له أي وارث مسلم لا قريب و لا بعيد و لم يسلم بعد موته أحد من ورثته قبل القسمة، فلمن يكون الميراث؟

لا شكّ في أن الميراث يكون لورثته الكفار فيقسم المال بين ورثته الكفار و لا ينتهي الأمر إلى الإمام عليه السّلام بدعوى أن الإمام وارث مسلم يحجب الورثة الكفار، فإن الوارث المسلم الذي يكون حاجبا هو غير الإمام، و أمّا الإمام فهو وارث من لا وارث له، فموضوعه (من لا وارث له) و هذا له وارث: أولاده، إخوانه، أبناء عمه، مقتضى الإطلاق في الآية المباركة أن الإنسان إذا مات فتركته تكون لأولي الأرحام و بعضهم أولى ببعض، للرجال نصيب و للنساء نصيب، إطلاق الآية المباركة شامل للكفار أيضا، فهو له وارث و لا تصل النوبة إلى الإمام.

على أنّه لو كان وارثه الإمام فأي مورد يوجد لإرث النصارى أو اليهود أو المجوس الوارد في الروايات؟!- و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى- بأن الإرث كيف يقسّم بين المجوس، و أن النصارى يرث بعضهم بعضا- كما في المعتبرة «1»- و أنّه لأولاده الكفار،

فلو فرضنا أن الكافر لا يرث حتّى من الكافر، و أن الإرث ينتقل إلى الإمام فلا يبقى مورد لإرث الكفار مع أنّه موجود في الروايات صريحا.

و مع قطع النظر عن ذلك أيضا فإنّه يكفينا في ذلك السيرة القطعيّة من زمان الأئمّة عليهم السّلام إلى زماننا، فقد كان كثير من النصارى و اليهود و المجوس يعيشون في بلاد الإسلام في زمن الأئمّة عليهم السّلام و فيما بعد زمانهم فأي كافر أخذ ماله بعد موته و ألحق ببيت المال؟ أو أخذه الإمام عليه السّلام؟ لا يوجد ذلك أبدا.

______________________________

(1) الوسائل 26: 25 باب 5 من أبواب موانع الإرث ح 3: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في يهودي أو نصراني يموت و له أولاد غير مسلمين فقال: «هم على مواريثهم».

محاضرات في المواريث، ص: 131

فلا شكّ في أن الكافر إذا مات و ليس له وارث مسلم يقسّم ماله بين ورثته الكفار و لا تصل النوبة إلى الإمام.

نتيجة البحث:

1- أن الكافر بأقسامه لا يرث المسلم فلو مات مسلم يرثه المسلم و لو كان بعيدا، فإن لم يكن له وارث مسلم ينتقل إرثه إلى الإمام عليه السّلام لأنّه وارث من لا وارث له.

2- أن الكافر إذا مات و كان له وارث مسلم يكون الإرث للمسلم و يحجب من تقدّمه في الطبقة من الكفار، فابن الابن يتقدّم على الابن إذا كان ابن الابن مسلما و كان أبوه كافرا. و هذا أيضا ممّا لا إشكال فيه.

3- إذا لم يكن للكافر وارث مسلم من أي من الطبقات بعيدا أو قريبا كان إرثه لورثته الكفار على ما نطقت به الأخبار في كيفية تقسيم ميراث المجوس، أو النصارى فيرث بعضهم بعضا و قد جرت عليه

السيرة في زمانهم عليهم السّلام- و هذا أيضا ممّا لا إشكال فيه- فلا ينتقل إرثه إلى الإمام بل ينتقل إلى ورثته الكفار.

محاضرات في المواريث، ص: 133

بحث عن المرتد و ما يترتّب على الارتداد من الأحكام

اشارة

محاضرات في المواريث، ص: 135

أحكام المرتد إذا مات المرتد فهل يكون حكم إرثه كغيره من الكفار؟

أو أن المال ينتقل إلى الإمام عليه السّلام؟

الكافر إمّا أن يكون كافرا أصليا، أو أن يكون كفره بالارتداد بعد الإسلام:

أمّا الكافر الأصلي فقد تقدم الكلام فيه و بيّنا أحكامه.

و أمّا الكافر بالارتداد فهو على قسمين:

1- مرتد فطري.

2- مرتد ملّي.

فالأوّل: هو من تولد على الإسلام و بعد بلوغه ارتد إلى الكفر، و يسمّى (المرتد الفطري).

و الثاني: هو من يولد على الكفر، ثمّ يسلم و بعد إسلامه يرتدّ إلى الكفر، و يسمّى (المرتد الملّي).

ذكر غير واحد الإجماع على أن المرتد الفطري لا يرثه ورثته الكفّار، فإن كان له وارث مسلم ورثه و إلّا فينتقل إرثه إلى الإمام عليه السّلام فهو يفترق في هذا عن سائر الكفّار.

و كذلك الحال في المرتد الملّي على ما هو المشهور بينهم شهرة عظيمة- على ما

محاضرات في المواريث، ص: 136

ذكره في الجواهر و غيره «1» أن الشهرة عظيمة- بأن المرتد الملّي أيضا لا يرثه الكافر، فإن كان مسلم في ورثته فهو، و إلّا فتنتقل تركته إلى الإمام عليه السّلام.

و نتكلّم في كلّ منهما مفصلا:

الكلام في إرث المرتد الملّي المسألة الثالثة: في إرث المرتد الملّي.

ذهب المشهور إلى أن المرتد الملّي مستثنى من بقية الكفار، فلا يرثه وارثه الكافر بل ينتقل ماله بعد موته إلى الإمام عليه السّلام إن لم يكن له وارث مسلم و لو بعيدا، بل ادعي الإجماع على أنّه ينتقل ماله إلى الإمام بخلاف الكافر الأصلي.

نسب الخلاف

في هذه المسألة إلى الشيخ الصدوق قدّس سرّه في (المقنع). «2» و في (من لا يحضره الفقيه)، «3» و إلى الشيخ قدّس سرّه في كتابيه، «4» و أختاره بعض المتأخرين- و هو

______________________________

(1) الجواهر 39: 17.

(2) راجع المقنع: 179، قال قدّس سرّه: (و النصراني إذا أسلم ثمّ رجع إلى النصرانية ثمّ مات فميراثه لولده النصراني).

(3) فقد روى الصدوق في الفقيه 4: 299، باب 171 ميراث أهل الملل، ح 14، عن إبراهيم بن عبد الحميد قال: قلت لأبي عبد اللّه عبد اللّه عليه السّلام: نصراني أسلم ثمّ رجع إلى النصرانيّة، ثمّ مات، قال: «ميراثه لولده النصارى، و مسلم تنصّر ثمّ مات، قال: ميراثه لولده المسلمين».

(4) الشيخ الطوسي قدّس سرّه روى الحديث الذي ذكرناه في الهامش 3 في كتابيه إلّا أنّه مع الواسطة قال: «عن إبراهيم بن عبد الحميد عن رجل قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام» و قد علق عليه في الاستبصار بقوله:

(فالوجه في هذا الخبر أن ميراث النصراني إنّما يكون لولده النصارى إذا لم يكن له ولد مسلمون ..) و قد رواه في التهذيب بعينه بدون تعليق راجع الاستبصار 4: 266 باب 110، ح 19، و التهذيب 9:

320، باب 40، ح 15.

محاضرات في المواريث، ص: 137

صاحب المستند- اختار أنّه يرثه ورثته الكفار و لا ينتقل إرثه إلى الإمام، قال: (إن ما ذهب إليه في المقنع هو الأقوى). «1»

الظاهر أن هذا القول هو الصحيح إذ لا دليل على استثناء المرتد عن سائر الكفار، و الإجماع المدعى لم يثبت، فلا بدّ من أن يكون إرثه لورثته الكفار تمسكا بإطلاق الآية المباركة و أن تركة الميت تقسم بين ورثته، فالآية المباركة بإطلاقها شاملة لكل ميت سواء

كان مسلما أم كان كافرا، و الكافر مطلق أعم من أن يكون كفره أصليّا أم بالارتداد، خرجنا من ذلك بما إذا كان للكافر وارث مسلم فقدّمناه على غيره للنصوص- كما تقدّم- و قلنا إن المسلم يتقدّم على من في طبقته و من هو في طبقة سابقة عليه، فلو كان أخوان أحدهما مسلم و الآخر كافر فالمسلم يرث أباه و الكافر لا يرث أباه، و كذا إذا كان المسلم في مرتبة متأخرة.

فخرجنا عن إطلاق الآية المباركة بالروايات المقيّدة الدالة على تقديم المسلم على غيره.

و أمّا غير ذلك كما إذا لم يكن له وارث مسلم فمقتضى إطلاق الآية المباركة أن الإرث للأقربين الأقرب فالأقرب بلا فرق بين أن يكون الميت مسلما أو كافرا، فإطلاق الآية يدلّ على إرث الكافر مرتدا كان أم غيره و لا بدّ للخروج عن الإطلاق من دليل، و ليس لدينا أي نصّ قوي أو ضعيف مسند أو مرسل يدلّ على خروج المرتد عن ذلك.

______________________________

(1) قال في مستند الشيعة: 19: 26 و 29، (و صريح المقنع كظاهر الفقيه و الاستبصار أن ميراثه للكافر إن ارتد عن ملّة .. ثمّ بعد كلام طويل قال: و قول المقنع لا يخلو عندي من قوّة و اللّه العالم. ثمّ قال: و مع ذلك مظنّة انعقاد الإجماع على ما ذهبوا إليه متحقّقة و اللّه العالم) و هو إنّما يدلّ على تردده لا أنّه اختار هذا الرأى كما ذكر سيّدنا الأستاذ.

محاضرات في المواريث، ص: 138

مضافا إلى ما قدّمناه من عدم ثبوت الإجماع، بل لعلّ ظاهر الحدائق أنّه أيضا لم يلتزم به.

و قد استدلّوا على التقييد و الخروج عن الإطلاق بوجوه ضعيفة و بعضها من الضعف بمرحلة غير قابلة للذكر،

و نتعرض لبعضها:

منها: ما ذكره في الجواهر من أن المرتد متحرّم بالإسلام و لذا لا يجوز استرقاقه و لا يجوز نكاحه. «1»

و هذا الوجه لا يخرج عن القياس، فلو فرضنا أن الأمر ثابت كما ذكر من عدم جواز نكاح المرتد و استرقاقه فإن هذا لم يثبت من جهة التحرّم بالإسلام، بل هو قياس على تقدير الثبوت مع أنّه قياس مع الفارق، فإن مسألة الاسترقاق أو مسألة النكاح إنّما تكون في مورد قابل للبقاء و المرتد محكوم بالقتل فورا- إذا كان فطريا- و بالاستتابة ثلاثة أيام- إذا كان ملّيا- فإذا فرضنا أنّه لا يجوز نكاحه أو استرقاقه كيف نتعدّى إلى الإرث فنقول إنّه لا يرثه الكافر لتحرّمه بالإسلام، فالفارق في المقام موجود.

و أمّا عدم جواز نكاح المسلم للمرتدّة، و عدم جواز نكاح المرتد للمسلمة فوجهه واضح:

فإن نكاح الكافرة ممنوع قال تعالى وَ لٰا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوٰافِرِ «2» فلا يجوز نكاح الكافرة على الإطلاق بحسب هذه الآية المباركة خرجنا عن ذلك في الكتابيات و قلنا إنّه يجوز نكاحهنّ متعة، بل دواما أيضا على الأظهر- و إن كان خلاف المشهور- و أمّا غير الكتابيات فلا يجوز نكاحهن لأن نكاح الكافرة ممنوع

______________________________

(1) الجواهر 39: 17.

(2) الممتحنة: 10.

محاضرات في المواريث، ص: 139

كما دلّت عليه الآية المباركة.

و المرتد أيضا لا يجوز أن ينكح المسلمة لأن نكاح المسلمة من الكافر غير جائز على الإطلاق، فعدم جواز تزويجه بالمسلمة لا ربط له بالمقام إذ أنّه لا يختص بالمرتد، بل لا يجوز للمسلمة أن تتزوج بكافر مطلقا.

و أمّا عدم جواز تزويجه بالكتابية متعة أو دواما فلا يظهر له أي وجه، فإن المسلم يجوز له أن يتزوج بالكتابية متعة أو دواما فلا يظهر

له أي وجه، فإن المسلم يجوز له أن يتزوج بالكتابية متعة بلا إشكال، و دواما على خلاف و الأظهر عندنا الجواز، فإذا كان المسلم يجوز له التزويج بالكتابية فكيف لا يجوز للمرتد لتحرّمه بالإسلام؟!.

و أمّا غير الكتابية كالوثنية و المشركة و غيرهما فلم يدلّ دليل على عدم الجواز، فحال المرتد حال سائر الكفرة.

و أمّا مسألة عدم جواز الاسترقاق فإنّه ليس لتحرمه بالإسلام بل لأنّ الاسترقاق على خلاف الأصل، فمالكية إنسان لإنسان، بل مالكيته لغير الإنسان أيضا يحتاج إلى دليل، فالأصل في الإنسان هو الحريّة و العبوديّة و الاسترقاق تحتاج إلى دليل، و أدلّة الاسترقاق كلّها في الكافر الأصلي و لم يدلّ دليل على استرقاق غير الكافر الأصلي، فعدم جواز الاسترقاق لعدم المقتضي- على كلام في محله.

إذا ليس لدينا دليل يدلّ على أن المرتد ينتقل إرثه إلى الإمام عليه السّلام، بل إن كان له وارث مسلم فالإرث له، و إلّا فالإرث لورثته الكفار.

فكيف كان هذا قياس و نحن لا نقول به مع وجود الفارق أيضا.

و قد تمسّك بوجوه أضعف من هذا الوجه بكثير فهي غير قابلة للذكر:

منها: التمسّك بالاستصحاب، الأصل أن الوارث الكافر لا يرث من المرتد.

محاضرات في المواريث، ص: 140

فلنفرض أن هذا الأصل جار في نفسه كيف يمكن التمسّك به في مقابل الدليل؟

إطلاق الآية المباركة المؤيد بالروايات أيضا أن الكافر يرث الكافر، فهو شامل للمرتد أيضا كيف يمكن الخروج عن الإطلاق بالاستصحاب.

و منها: أن المرتد إذا تاب بعد ذلك يجب عليه قضاء صلاته و صيامه ممّا فاته حال الردّة، فحاله حال المسلم إذا فاتته الصلاة، فيكون ملحقا بالمسلم و لا يلحق بالكافر.

و هذا عجيب منه قدّس سرّه فإن القاعدة تقتضي قضاء ما فات من

أي شخص كان كلّ صلاة صلاها إنسان بغير طهور أو لم يصلها أصلا يجب عليه قضاؤها، ورد المخصّص بالنسبة إلى الكافر إذا أسلم لا يجب عليه قضاء ما فاته حال كفره، و هذا مختصّ بالكافر الأصلي و لا يشمل المرتد، أمّا المشرك أو الكتابي إذا أسلم لا يجب عليه قضاء ما فاته من الصيام و الصلاة حال كفره، و المرتد غير داخل في هذا المخصّص فيبقى مشمولا للإطلاق.

كيف يمكن التعدّي من هذا الحكم إلى مسألة الإرث مع أنّه خلاف إطلاق الآية المباركة.

و منها: دعوى أن قولهم عليهم السّلام لا يرث الكافر المسلم يشمل المرتد أيضا لأن المرتد كان مسلما- و يصح إطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدأ و لو مجازا- فيصح أن يقال إنه مسلم في حال ارتداده- و إن كان الإطلاق مجازا.

و هذا أيضا غير قابل للذكر، فإن قولهم عليهم السّلام لا يرث الكافر المسلم المقصود المسلم بالفعل و من يكون حين موته مسلما حقيقة، و المرتد كافر حقيقة فلا يشمله مثل ذلك، فيرثه وارثه الكافر هذا.

إلى غير ذلك من الوجوه غير القابلة للذكر.

محاضرات في المواريث، ص: 141

فالصحيح: إن هذه الشهرة و إن كانت ثابتة إلّا أنّها لا أساس لها.

و عمدة الوجوه التي اعتمدوها ما ذكره في الجواهر من تحرّمه بالإسلام، و هذا جوابه ما ذكرناه.

النتيجة:

إذا الظاهر أن المرتد الملّي إذا مات و لم يكن له وارث مسلم يرثه ورثته الكفار لإطلاق الآية المباركة مضافا إلى دلالة صحيحة إبراهيم بن عبد الحميد على ذلك صريحا: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: «نصراني أسلم ثمّ رجع إلى النصرانيّة ثمّ مات، قال:

ميراثه لولده النصارى» «1» فهذه الصحيحة واضحة الدلالة على أن أولاده الكفار

يرثونه مع أنّه مرتد.

و قد أشكل على هذا غير واحد منهم صاحب الجواهر قدّس سرّه بأن هذه الصحيحة بإطلاقها تشمل ما إذا كان له أولاد مسلمون أو ولد مسلم أو وارث آخر مسلم فإطلاق قوله «ميراثه لولده النصارى» مخالف للإجماع قطعا و للروايات المتقدّمة.

و الجواب:

أوّلا: نرفع اليد عن الإطلاق، بل يمكن القول أنّها لا إطلاق لها رأسا فلا نحتاج إلى التقييد، و ذلك لأن المفروض أنّه أسلم بعد كونه نصرانيّا فكان مدّة من الزمان نصرانيّا ثمّ أسلم فبطبيعة الحال له أولاد كفار، و لم يذكر أنّه بعد إسلامه ولد له ولد، فهو أسلم ثمّ ارتد يمكن أن يكون ذلك يوما واحدا أو يومين أو شهرا أو سنة واحدة، فلم يفرض أن له ولدا مسلما، فقوله عليه السّلام: «ميراثه لولده النصارى» باعتبار

______________________________

(1) الوسائل 26: 25 باب 6 من أبواب موانع الإرث، ح 1.

محاضرات في المواريث، ص: 142

أن المورد كان كذلك لم يكن له إلّا أولاد كفار، فالرواية في نفسها غير شاملة لما إذا كان له ولد مسلم، فلا إطلاق لها حتّى تقيّد.

فالصحيح: ما ذهب إليه الصدوق و الشيخ في كتابي الأخبار: من أن المرتد الملّي إذا لم يكن له وارث مسلم يرثه ورثته الكفّار و لا تصل النوبة إلى الإمام عليه السّلام لأن الإمام وارث من لا وارث له، و هذا له وارث.

و أمّا استدلالنا بهذه الرواية عن إبراهيم بن عبد الحميد فلم يثبت كونها مسندة إلى الإمام عليه السّلام- كما أشرنا إلى ذلك في المعجم «1»- ففي الرجال في ترجمة إبراهيم بن عبد الحميد موجودة على ما رواه في الفقيه: إبراهيم بن عبد الحميد عن الإمام عليه السّلام بلا واسطة، و على ما

في التهذيب في موردين، و في الاستبصار في مورد واحد يرويها عن إبراهيم بن عبد الحميد عن رجل عن الإمام عليه السّلام فهي مرددة بين أن تكون مرسلة و بين أن تكون مسندة.

و لا حاجة لنا إلى الاستدلال بالرواية، فإن القاعدة تقتضي الانتقال إلى ورثته كسائر الكفار إذا لم يكن دليل في المقام على خلافه، و ليس في المقام أي دليل.

و الوجوه التي ذكروها في المقام قلنا إن أكثرها غير قابل للذكر لوضوح ضعفها فلا حاجة إلى الإعادة.

الكلام في إرث المرتد الفطري

المسألة الرابعة: في إرث المرتد الفطري.

اشارة

أمّا المرتد الفطري فقد ادعى الإجماع غير واحد من الأعاظم منهم صاحب

______________________________

(1) معجم رجال الحديث 1: 223.

محاضرات في المواريث، ص: 143

الجواهر قدّس سرّه و أنّه لا خلاف في أنّه لا يرثه الكافر، فإن كان له وارث مسلم فهو يرثه، و إلّا انتقل إرثه إلى الإمام عليه السّلام. «1»

و هذا الحكم مقطوع به بين الأصحاب بلا خلاف.

الظاهر أن دعوى الإجماع في المقام- و إن صدرت من مثل صاحب الجواهر قدّس سرّه و غيره من الأعلام- فهي دعوى لا ترجع إلى أي محصّل، و لا يمكن دعوى الإجماع في مثل المقام.

بيان ذلك:

إن المرتد الفطري تارة يفرض الكلام في انتقال ماله إلى ورثته قبل موته- فبارتداده يحكم عليه بالموت و هو بمنزلة الميت- فينتقل ماله إلى ورثته، و تبين عنه زوجته، و تعتد عدّة الوفاة، و يقتل و لا تقبل توبته، فلو فرضنا أنّه تاب لا بدّ من قتله.

فبالنسبة إلى أمواله التي ملكها قبل ارتداده حال كونه مسلما قليلة كانت أم كثيرة حكمها كما تقدّم تنتقل إلى ورثته المسلمين لأن الارتداد نزّله منزلة الميت، فهو في نظر الشرع ميت فتنتقل أمواله إلى ورثته المسلمين، لأنّه مسلم قد ارتد و ارتداده بمنزلة الموت فيرثه المسلمون إن كان في ورثته مسلم، و إلّا فإرثه ينتقل إلى الإمام عليه السّلام و لا يرثه أي وارث كافر.

و هذا واضح دلّت عليه النصوص من دون حاجة إلى دعوى الإجماع. فهو خارج عن محل الكلام، لأن مفروض هذا الكلام أن المرتد بعد حيّ لم يمت. و كلامنا

______________________________

(1) الجواهر 39: 17.

محاضرات في المواريث، ص: 144

إنّما هو في فرض موت المرتد حقيقة- على ما صرح به في الجواهر و غير الجواهر- يعني

بعد موت المرتد من يرثه؟ و ليس الكلام في من يرثه حال حياته، فإن إرثه حال حياته حكمه واضح و خارج عن محل الكلام.

أمّا لو فرضنا أن المرتد الفطري بقي و لم يقتل إمّا لفراره أو لغير ذلك من الموانع- كما في زماننا هذا حيث لا يمكن قتله- فبقي حيّا و اكتسب أموالا ثمّ مات بعد ذلك فمن يرثه بعد موته؟

المشهور بينهم على ما نسب إليهم أن توبته لا تقبل حتّى في غير ما ذكر من الأحكام المتقدّمة، فلا يحكم بطهارته بعد التوبة، و لا يجوز تزويجه بامرأة مسلمة سواء زوجته الاولى أو غيرها من النساء، و لا يملك أي شي ء، لأنّه ميّت ليس له أن يتملك ملكا جديدا. هذا ما نسب إلى المشهور.

و خالف في ذلك جماعة فقالوا بأن توبته تقبل في غير الأحكام المذكورة واقعا بينه و بين اللّه تعالى، بل ظاهرا أيضا و يترتب على توبته كلّ ما يترتب على المسلم من الأحكام و إن كان يجب قتله و تبين زوجته، و توزع على الورثة تركته، أمّا غير ذلك من الأحكام فهي تترتب على توبته.

اختار ذلك جماعة من المحققين منهم صاحب العروة قدّس سرّه- على ما تقدّم في كتاب الطهارة- فحكم بأن توبته تقبل واقعا بل ظاهرا، فيترتب على ذلك طهارة بدنه و ملكه لكسبه الجديد و غير ذلك من الأحكام. «1»

و ممن صرح بذلك الشهيد قدّس سرّه في (الروضة) في باب الحدود، فذكر أن الأقوى قبول توبته و أنّه يملك بعد ذلك ملكا جديدا و يحكم بصحة معاملاته، و صحة

______________________________

(1) العروة الوثقى: الثامن من فصل المطهرات: 48.

محاضرات في المواريث، ص: 145

تزويجه من المسلمة. «1»

و ممن صرح بذلك أيضا المحقّق

القمّي في جامع الشتات في موضعين: في الحدود، و في الميراث، ذكر أن الأقوى قبول توبته، و أنّه يملك مالا جديدا و تترتب عليه أحكام الإسلام. «2»

و قد تقدّم الكلام في ذلك في كتاب الطهارة.

و المقصود هنا التعرض لما نسب إلى المشهور من عدم قبول توبته، و رتبوا على ذلك عدم تملكه لأي شي ء و أنّه بحكم الميت، فعلى هذا أي شي ء يملك المرتد الفطري ليقال إنّه لا ينتقل إلى ورثته الكفار بل يرثه المسلم، فإن لم يكن في ورثته مسلم انتقل إرثه إلى الإمام عليه السّلام؟! كيف يتحقّق ذلك و المفروض على رأيهم أنّه لا يملك أي شي ء و ليس له أن يتملك أي شي ء لعدم قبول توبته؟

كيف يمكن دعوى الإجماع على أنّه بعد موته يرثه المسلم و عند عدم وجود مسلم فإرثه للإمام عليه السّلام؟! لا موضوع لهذه الدعوى، و الإجماع التقديري بعيد جدا بأن يقال: لو فرضنا محالا أنّه يملك لا ينتقل إرثه، هذه الدعوى لا تسمع.

فالظاهر- و اللّه العالم- أن مدعي الإجماع قد اشتبه عليه الأمر بين ما يرثه المسلم من المرتد حال ارتداده، و ما يرثه منه بعد موته.

فالذي هو مورد الإجماع و لا خلاف فيه- و هو الصحيح- و الروايات أيضا دالة عليه هو انتقال ماله إلى ورثته حال حياته عند ارتداده فجميع ما يملكه ينتقل

______________________________

(1) الروضة 9: 337 و ما بعدها.

(2) جامع الشتات 2: 616 في باب المواريث، و أمّا في الحدود فلم نعثر على شي ء دال على ذلك.

محاضرات في المواريث، ص: 146

إلى ورثته المسلمين فإن لم يكن له وارث مسلم فإلى الإمام عليه السّلام و لا يرثه كافر، لأن الكافر لا يرث المسلم، و هذا

مسلم مات موتا تنزيليّا فصار بحكم الميت الحقيقي.

هذا هو الصحيح المجمع عليه و لا خلاف فيه.

و أمّا بعد تقسيم تركته و جريان أحكام الردّة عليه نفرض أنّه فرّ إلى بلاد الكفار، أو بقي في بلاد المسلمين و لا يمكن قتله، و بعد ذلك تاب و اكتسب مالا جديدا بعد توبته ثمّ مات، فبعد موته من يرثه؟

لا يمكن أن يكون هذا موردا للإجماع، لأنّهم ملتزمون بعدم ملكيته لأي شي ء، فكيف يمكن أن يجمعوا على أن ماله ينتقل إلى وارثه المسلم دون الكافر، و إلّا فإلى الإمام عليه السّلام؟! هذا لا موضوع له أصلا لأن ملكيته موقوفة على قبول توبته على ما يراه الجماعة، و إن ناقشنا في ذلك في كتاب الطهارة و قلنا الظاهر أنّه يملك حتّى بعد الارتداد، و لكن المشهور لم يلتزموا بذلك لقولهم بعدم قبول توبته، فمن قال بقبول توبته التزم بأنّه يملك، و أمّا على القول بعدم قبول توبته فما ذا يملك المرتد الفطري حتّى يدّعى بأنّه ينتقل إلى ورثته المسلمين و إلّا فإلى الإمام؟! فالظاهر أن دعوى الإجماع في المقام فيه اشتباه و خلط بين إرثه بعد موته و إرثه حال حياته، و اللّه العالم.

محاضرات في المواريث، ص: 147

الكلام في إسلام الوارث قبل القسمة أو بعدها أو حال القسمة

اشارة

تقدّم الكلام في أنّ الكفر مانع من الإرث، فيكون الإرث للمسلم سواء كان متقدّما في الطبقة على الكافر أم كان مساويا له أم متأخرا عنه.

و قد يفرض أن الوارث المسلم واحدا و قد يفرض أنّه متعدّد.

فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: إذا تعدّد الوارث المسلم
اشارة

إذا فرضنا أن الوارث المسلم متعدّد و هناك وارث كافر فإن الكفر إنّما يكون مانعا من الإرث بقاء، فإذا فرضنا أنّه حين الموت كان كافرا و لكنه أسلم بعد ذلك قبل القسمة، فيكون تمام المال له إذا كان متقدّما في الطبقة على الورثة المسلمين، و شريكا معهم إذا كان في مرتبتهم.

فلو فرضنا أن الميت المسلم له ولد كافر و له أخوة مسلمون، أو أولاد ابن مسلمون، و قبل أن يقسم المال بين الأخوة، أو بين أولاد الابن أسلم الولد، فبما أنّه متقدّم عليهم رتبة يكون تمام المال له.

محاضرات في المواريث، ص: 148

و إذا كان في طبقتهم كما إذا كان للميت أولاد أحدهم كافر و اثنان منهم مسلمون، فالكافر لا يرث إلّا إذا أسلم قبل القسمة، فإذا أسلم قبل القسمة اشترك مع أخويه المسلمين في الإرث.

فالكفر إنّما يكون مانعا من الإرث ببقائه، فلو فرضنا أنّه أسلم بعد موت مورثه قبل قسمة المال بين الورثة المسلمين فإمّا أن يكون المال مختصّا به في فرض تقدّم طبقته عليهم، و إمّا أن يكون مشتركا معهم في فرض مساواته لهم في الطبقة، و قد دلّت على ذلك غير واحد من الروايات من أن الإسلام قبل القسمة بحكم الإسلام حين الموت. «1»

و يتفرع على هذا الكلام في غير ما تركه الميت، كما إذا كان فصل زماني بين موت الميت و قسمة التركة و قد حصل في هذا الفاصل الزماني نماء جديد،

فلنفرض بستانا لم يكن فيه ثمر عند موت المورث- مثلا مات في فصل الشتاء- و تأخرت القسمة إلى الصيف فحصل النماء و الثمر ثمّ أسلم الوارث قبل القسمة في طبقتهم أو متقدّما عليهم في الطبقة، فلمن يكون هذا النماء؟ فهل للذي أسلم حقّ في النماء؟ أم أن النماء ملك للورثة الآخرين؟

فقد يقال إن النماء كان قبل إسلام هذا الوارث فقد دخل في ملك الورثة المسلمين حين كفره، و بعد إسلامه لا يستحق شيئا من النماء، و إن كانت التركة بعد لم تقسّم فليس له حقّ في النماء الحاصل قبل إسلامه.

و لكن المعروف و المشهور على ما في الجواهر «2» أن النماء تابع للأصل، فكما أن

______________________________

(1) راجع الوسائل 26: 21 باب 3 من أبواب موانع الإرث، ففي حديث 2 عبد اللّه ابن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أسلم على ميراث قبل أن يقسم فله ميراثه، و إن أسلم و قد قسم فلا ميراث له».

(2) الجواهر 39: 18- 19.

محاضرات في المواريث، ص: 149

من أسلم قبل القسمة يأخذ حصته من أصل التركة كذلك يأخذ حصته من النماء أيضا- و إن لم يكن النماء ملكا للميت و لم يكن من التركة- خلافا للإيضاح حيث اختار أن النماء لبقية الورثة إذ أنّه ليس من التركة و قد حصل قبل إسلام هذا الوارث، فلا حقّ له فيه. «1»

الظاهر أن ما ذهب إليه المشهور هو الصحيح، فإن المال إنّما ينتقل إلى من أسلم بعنوان الميراث و بعنوان ما تركه الميت.

و بعبارة اخرى: الكفر المانع من الإرث إنّما هو الكفر المستمر، و أمّا الكفر المنقطع فليس بمانع، فهو بعد إسلامه يأخذ المال من الميت بعنوان الإرث لا

أنّه يأخذه من الورثة، فإذا كان يأخذه بعنوان الميراث فينكشف أنّه انتقل إليه من الأوّل، فالنماء يكون تابعا له، و الروايات صريحة في أن الميراث له، أو يأخذ ميراثه، أو حصته من الميراث «2»، فالأخذ أخذ بعنوان الإرث و أخذ من الميت، فتكون هذه الروايات مخصصة لما دلّ على أن الكافر لا يرث المسلم، الكافر الذي لا يرث المسلم هو من يستمر كفره، و أمّا الذي لا يستمر كفره فليس لدينا دليل على عدم إرثه، بل هذه الروايات دالة على توريثه، فكما ينتقل المال إليه بعنوان الميراث كذلك ينتقل نماؤه أيضا إليه.

فلو فرضنا أن الورثة قد تصرفوا في النماء قبل ذلك لا بدّ لهم من ردّ بدله إليه، لأنّه تصرف في مال الغير بغير إذنه انكشف بالشرط المتأخر- و هو الإسلام- أنّه ملك لمن أسلم، لأن شرط الإرث هو الإسلام في الجملة- و لو قبل القسمة- و لا

______________________________

(1) الإيضاح 4: 174.

(2) راجع الوسائل 26: 20 و ما بعدها باب 3 من أبواب موانع الإرث.

محاضرات في المواريث، ص: 150

يعتبر الإسلام حال الموت.

إذا يكون حال هذا حال من كان مسلما قبل موت المورث فالمانع إنّما هو الكفر المستمر لا المنقطع.

ثمّ إن إسلام الوارث الكافر إمّا أن يكون قبل القسمة، أو أن يكون بعد القسمة، أو أن يكون حال القسمة.

فهنا صور ثلاث:

1- إذا كان إسلامه قبل القسمة فقد تقدّم الكلام فيه و لا إشكال فيه بمقتضى الروايات ينتقل المال إليه تماما أو بمقدار حصته.

2- و أمّا إذا كان إسلامه بعد القسمة فلا أثر له وجوده كعدمه.

3- إذا كان إسلامه حال القسمة فكان الورثة مشغولين بتقسيم المال و أسلم في الأثناء و هو في طبقتهم أو طبقة متقدّمة

عليهم، فهل يجري عليه حكم من أسلم قبل القسمة؟ أم أنّه يجري عليه حكم من أسلم بعد القسمة؟

إرث من أسلم حال القسمة

ذكر صاحب الجواهر «1» قدّس سرّه أن الرواية الصحيحة الدالة على أنّه إذا أسلم قبل القسمة فالميراث له، و إذا أسلم بعد القسمة فلا حق له، يقع التعارض بين مفهومي الجملتين: فمقتضى مفهوم الاولى أنه لا يرث، و مقتضى مفهوم الثانية- إذا أسلم بعد

______________________________

(1) الجواهر 39: 19.

محاضرات في المواريث، ص: 151

القسمة لا يرث- فإذا كان غير ذلك يرث، «1» فيقع التعارض بين المفهومين، فيرجع إلى عموم مانعية الكفر و أن الكافر لا يرث المسلم، أو أن الكافر لا يرث الكافر أيضا إذا كان له وارث مسلم، فالمرجع هو العمومات فيحكم بأنّه لا أثر لهذا الإسلام و أنّه لا بدّ من أن يكون الإسلام مقدّما على القسمة.

ما ذكره قدّس سرّه صحيح بحسب المدّعى، و أمّا بحسب الدليل فلا يتم ما ذكره قدّس سرّه، إذ ليس هنا للشرطية الثانية مفهوم ليعارض الشرطية الاولى. فالشرطية الاولى أنّه إذا أسلم قبل أن يقسّم المال فهو يرث، أو الميراث له، أو له حصته من المال، طبعا لهذه الشرطية مفهوم و هو أنّه إذا لم يسلم قبل القسمة فليس له حقّ.

و أمّا الشرطية الثانية: و إن أسلم بعد القسمة فلا حقّ له ليس لها أي مفهوم، لأن الإسلام بعد القسمة غير مقتض للإرث لا أنّه مانع من الإرث بعد القسمة سواء أسلم أم لم يسلم ليس له مفهوم.

إذا أسلم بعد القسمة فلا حقّ له ليس مفهومه أن إسلامه إذا كان قبل ذلك فيرث، بل مفهومه هو لم يسلم، أيضا لا حقّ له، فالشرطية الثانية بيان لمفهوم الشرطية الاولى و ليست شرطية

جديدة، لأن الإسلام المتأخر لا يقتضي الإرث لا أنّه يمنع من الإرث.

فالمستفاد من هذه الصحيحة أن الإسلام إذا وقع قبل القسمة فهو يرث، و إذا لم يقع فلا يرث، فقد صرح بذلك إذا كان بعد القسمة و لم يتعرض للإسلام حال القسمة، فمقتضى مفهوم الشرطية الاولى أن الذي يقتضي الإرث هو الإسلام قبل

______________________________

(1) أي أنّه إذا لم يكن إسلامه بعد القسمة فهو يرث، و هذا إسلامه لا هو قبل القسمة و لا بعد القسمة فأحد المفهومين ينفي الإرث و الثاني يثبته.

محاضرات في المواريث، ص: 152

القسمة، و أمّا الإسلام بعد القسمة لا أثر له فهو لا يرث لا لإسلامه بل لكفره السابق و هذا الإسلام بلا أثر.

إذا يكفينا الشرطية الاولى في الدلالة على عدم الإرث و أنّه يعتبر في الإرث أن يكون الإسلام سابقا، و بهذا يقيّد ما في بعض الروايات الاخر أنّه إن قسّم المال فلا يرث و إن لم يقسّم فهو يرث، لم يقسم و قسم ليس بينهما واسطة وجود و عدم، فلم يقسّم يشمل حال القسمة أيضا، فمقتضى هذا الإطلاق أنّه يرث إذا كان إسلامه حال القسمة باعتبار أن المال لم يقسم بعد لأنّهم مشغولون بالتقسيم فعلا، و لكن يقيّد ذلك بقوله عليه السّلام: إن أسلم قبل أن يقسم المال فهذا يقيده و ينحصر الحكم بالإسلام المتقدّم.

فرع: و يتفرع على ذلك ما إذا علم قسمة الإرث و إسلام الوارث و شكّ في السابق منهما، فنحن نعلم أنّه قد تحقق أحدهما يوم الجمعة و تحقق الآخر يوم السبت إلّا أنّه لا نعلم أيّهما كان يوم الجمعة و أيهما يوم السبت ففي مثل ذلك أيضا يحكم بعدم الإرث، و ذلك لأصالة عدم تحقّق

الإسلام إلى زمان القسمة، فالأصل أنّه لم يسلم إلى أن قسم المال فلا إرث له.

و لا يعارضه استصحاب عدم قسمة المال إلى أن أسلم لأنّه من الأصل المثبت، فاستصحاب عدم القسمة إلى زمن الإسلام لازمه كون (الإسلام قبل القسمة) و الاستصحاب لا يثبت لوازمه، فلا يثبت لنا أن الإسلام كان متقدّما، فيحكم بعدم الإرث في فرض الشك لعدم معارضة الأصلين.

بقي في المقام فرع آخر:
اشارة

و هو ما إذا فرضنا أن للميت أموالا كثيرة له نقود و له عقارات و فرش و كتب

محاضرات في المواريث، ص: 153

و مواشي و غير ذلك، فقسّموا النقود أمّا بقية الأموال بعد لم تقسّم، فبعض التركة قسم و البعض الآخر لم يقسم، فما هو الحكم هنا؟ فهل يحكم بأن التركة قسمت و لو باعتبار بعضها، فهذا الوارث لا يرث لأن إسلامه بعد القسمة؟

أو أن العبرة بمجموع التركة و أن هذا إسلام قبل تقسيم المجموع فيرث حتّى من المقدار الذي قسم لأنّه إسلام قبل القسمة؟

أو أنّه يفصّل: فبالنسبة إلى المقدار الذي قسّم لا يرث و بالنسبة إلى غير المقسّم يرث؟

و الجواب:

هو أن التفصيل الأخير هو الصحيح، لأن القضية قضية حقيقية: (إذا أسلم الوارث قبل أن تقسم التركة) النقود تركة، و العقار تركة، و الكتب تركة و هكذا.

فبالنسبة إلى النقود يصح أن يقال: هذه تركة الميت و قد قسمت قبل إسلام الوارث فلا حق له فيها.

أمّا بالنسبة إلى المواشي و العقارات و الكتب يقال: إنّها تركة بعد لم تقسم، فيشملها قوله عليه السّلام أسلم قبل قسمة المال.

فالظاهر أن هذا الحكم ينحل حسب ما تركه الميت من الأفراد و من الأنواع، فكل شي ء وقع عليه التقسيم لا يرث منه لأنّه إسلام بعد القسمة.

و ما لم يقسم يرث منه فيحكم باختصاصه به أو اشتراكه معهم لأنّه إسلام قبل القسمة.

المقام الثاني إذا اتحد الوارث المسلم
اشارة

و أمّا إذا كان الوارث المسلم واحدا و بعد موت المورّث أسلم الوارث الكافر،

محاضرات في المواريث، ص: 154

كما إذا كان للميت أخوان مثلا أو ابن و أخ و كان الولد كافرا أو كان أحد الأخوين مسلما و الآخر كافرا، فينتقل المال للمسلم بمجرد موت المورث لا محالة و لا يكون للكافر شي ء سواء كان في طبقة سابقة على المسلم أم كان من طبقته، ففي مثل ذلك إذا أسلم لا أثر لإسلامه.

و الوجه في ذلك: أن الروايات قد صرحت بأن الكفر مانع عن الإرث و أن الإرث يختص بالمسلم دون الكافر و استثني من ذلك ما إذا أسلم الكافر قبل القسمة، يعني كان المانع هو الكفر المستمر إلى حين القسمة، و أمّا إذا أسلم و ارتفع الكفر لا يكون هذا الكفر مانعا، فهذا دليل خارجي خرجنا به عن عموم مانعية الكفر.

أمّا في المقام فليس لدينا دليل للخروج عن عموم القاعدة فإطلاقات أن الكافر لا يرث تكون محكّمة و في

مثل ذلك يختص الإرث بأحد الأخوين و لا أثر لإسلام الأخ الآخر، أو يكون الإرث للأخ و لا أثر لإسلام الابن، إذ ليس هنا قسمة ليقال إنّه أسلم قبل القسمة، فالخارج إنّما هو صورة واحدة، و أمّا غير ذلك فباق تحت الإطلاق و أنّه ليس للكافر حقّ في الإرث مع المسلم بل يختص الإرث بالمسلم.

هذا فيما إذا كان تمام المال لهذا المسلم الواحد- كما في المثال المذكور.

و أمّا إذا كان الوارث المسلم واحدا و لم يكن تمام المال له بل بعض المال يبقى بلا وارث، كما إذا فرضنا أن الميت ترك زوجة مسلمة فقط و ليس له أي وارث مسلم فالوارث المسلم منحصر بالزوجة، و له وارث كافر من أخ أو ابن أو ابن عمّ أو غير ذلك.

محاضرات في المواريث، ص: 155

فالزوجة ترث الربع لا محالة لأن الزوج لا ولد له و يبقى ثلاثة أرباع التركة تنتقل إلى الإمام عليه السّلام لا محالة لأنّه وارث من لا وارث له، فالمال يحتاج إلى القسمة بين الزوجة و بين الإمام و إن كان الوارث واحدا كما هو المفروض حيث أن الإمام ليس من أحد الورثة و إنّما هو يرث باعتبار عدم الوارث للميت فطبقته متأخرة و المال مشترك بين الزوجة و الإمام عليه السّلام، فإذا أسلم الوارث قبل أن يقسم المال بين الزوجة و الإمام يصدق أنّه أسلم قبل القسمة فيرث و لا تصل النوبة إلى الإمام، لأن الإمام وارث من لا وارث له، و المفروض أنّه قد وجد للميت وارث بعد الموت فيدخل هذا تحت إطلاق تلك الأدلّة.

و على هذا لا بدّ من التفصيل بين الزوج و الزوجة: إذا مات و ليس له وارث مسلم

غير زوجته، و بقية الورثة كلّهم كفار يأتي فيه ما ذكرناه.

و أمّا إذا ماتت المرأة و انحصر الوارث المسلم بالزوج فقط ففي هذا الفرض يكون تمام المال للزوج- على ما سيجي ء الكلام فيه إن شاء اللّه من أن المال لا ينتقل إلى الإمام بل يكون المال كلّه للزوج- فيكون داخلا تحت القسم الأوّل، يعني للميت وارث مسلم واحد و تمام المال لهذا الوارث، فلا تصل النوبة إلى القسمة ليقال إنّه أسلم قبل القسمة أو بعدها.

هذا كلّه فيما إذا كان وارثا بعنوان أنّه وارث.

و أمّا إذا كان وارثا بعنوان أنّه وارث من لا وارث له كالإمام عليه السّلام، فالإمام يرث و ليس هو وارثا ابتدائيا بل لأن الميت مسلم و ليس له أي قريب مسلم يرثه الإمام فهل يجري عليه ما ذكرناه أو لا؟

فهو له وارث واحد و لا يحتاج إلى القسمة بل جميع المال ينتقل إلى الإمام عليه السّلام و ليس للإمام شريك فهل نقول في هذه الحال إذا أسلم الوارث الكافر لا أثر

محاضرات في المواريث، ص: 156

لإسلامه؟ أم أن هذا يختص بالورثة الأصليين، و أمّا من ليس بوارث بل يرث بعنوان وارث من لا وارث له لا يجري هذا الحكم فيه؟ فإذا أسلم وارثه الكافر يأخذ جميع المال و لا يكون للإمام حقّ فيه؟

لو كنا نحن و لم تكن في البين رواية صحيحة لكان الأمر كما تقدم فإن المستثنى هو الإسلام قبل القسمة، و مع وحدة الوارث لا معنى للإسلام قبل القسمة، فلا أثر لإسلامه و ينتقل المال لهذا الواحد سواء كان هو الإمام أو غيره.

إلّا أن صحيحة أبي بصير الواردة في خصوص هذه الصورة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام

عن رجل مسلم مات و له أم نصرانية و له زوجة و ولد مسلمون، فقال:

«إن أسلمت أمّه قبل أن يقسم ميراثه أعطيت السدس. قلت: فإن لم يكن له امرأة و لا ولد و لا وارث له سهم في الكتاب مسلمين، و له قرابة نصارى ممن له سهم في الكتاب لو كانوا مسلمين، لمن يكون ميراثه؟ قال: إن أسلمت أمّه فإن ميراثه لها، و إن لم تسلم أمّه و أسلم بعض قرابته ممن له سهم في الكتاب فإن ميراثه له، فإن لم يسلم أحد من قرابته فإن ميراثه للإمام» «1» فهذه الصحيحة تامة سندا و دلالة دلتنا على أن الإمام عليه السّلام لا يجري فيه ما جرى في غيره من الوارث الواحد، بل إنّ الانتقال إليه فرع أن لا يكون هنا إسلام قبل إرثه و قبل أن يتملك، و إلّا كان المال لمن أسلم فإن كانت أمّا فهي في الطبقة الاولى يكون تمام المال لها، و إن كان غيرها فيأخذ حصته كما يقتضيه الميراث.

يبقى هنا سؤال:

و هو أنّه هل يعتبر أن يعرض الإمام عليه السّلام الإسلام عليهم فإن أبوا ورثه و إلّا

______________________________

(1) الوسائل 26: 20 باب 3 من أبواب موانع الإرث، ح 1.

محاضرات في المواريث، ص: 157

فليس له أن يرث قبل أن يعرض الإسلام على الوارث؟

أو أنّه لا يحتاج إلى عرض الإسلام عليهم بل يصبر إلى أن يظهر حالهم نفرض أن الإمام يصبر يوما أو يومين أو أقل أو أكثر، فإن أسلم أحد منهم فالإرث له، و إلّا فللإمام و لا يتوقف إرث الإمام على أن يعرض الإسلام عليهم؟

احتمل صاحب الجواهر «1» قدّس سرّه اعتبار ذلك في إرث الإمام قال: و إن لم نر من

اعتبر ذلك إلّا أن المحقّق في نكت النهاية أشار إلى ذلك.

و يستدل على ذلك بصحيحة أبي ولاد التي وردت في مسلم قتل و ليس في قرابته مسلم لأنّ المنتسبين إليه كلّهم كفرة، قال عليه السّلام: «الإمام يعرض الإسلام على قرابته، فإن أسلموا أو أسلم أحدهم يسلّم القاتل إليه، فله أن يقتص و له أن يأخذ الدية، و له أن يعفو فهو مخير في ذلك». «2»

و إن أبوا جميعا و لم يسلموا فولي الأمر و هو الإمام عليه السّلام له أن يقتل و له أن يأخذ الدية و يجعلها في بيت مال المسلمين فإن جنايته كانت في بيت المال فديته أيضا تكون في بيت المال.

استدل صاحب الجواهر بهذه الرواية على اعتبار عرض الإسلام على الورثة في إرث الإمام.

و الظاهر أن الرواية أجنبية عن محل الكلام و قد تعرضنا لهذه الرواية في (مباني تكملة المنهاج) «3» في باب القصاص، و أن هذا من جهة حقّ القصاص،

______________________________

(1) الجواهر 39: 20.

(2) الوسائل 29: 124 باب 60 من أبواب قصاص النفس، ح 1.

(3) مباني تكملة المنهاج 2: 132.

محاضرات في المواريث، ص: 158

و حقّ القصاص أمر آخر غير ما نحن فيه، يعني ليس للإمام أن يقتص أو أن يأخذ الدية قبل أن يعرض الإسلام على قرابة المقتول، فإن هذا حقّ لهم فيعرض فإن قبلوا الإسلام كان هذا الحقّ لهم، و إلّا فينتقل الحقّ إلى الإمام عليه السّلام.

فأين هذا من محل كلامنا من إرث الإمام للمال، فالتعدي من مورد هذه الرواية إلى محل كلامنا بلا وجه.

فالصحيح: أنّه لا يعتبر أي شي ء بل يتملك الإمام المال و لكن مشروطا بأن لا يسلم أحد من ورثة الميت المسلم بطيب نفسه، لا بأن يعرض

الإمام عليه السّلام الإسلام عليه فإن لم يقبل ينتقل إلى الإمام.

محاضرات في المواريث، ص: 159

الكلام فيما إذا كان للكافر ولد صغار و كان له وارث مسلم بعيد

اشارة

تقدّم الكلام في أن الكافر إذا أسلم قبل القسمة فيشترك مع الباقين إن كانوا في طبقته، و يختص به الإرث إن كان في طبقة سابقة عليهم.

و أن إسلامه إذا كان متأخرا عن القسمة فلا أثر له فيكون في حكم العدم.

استثنى المشهور من المتقدّمين- على ما نسب إليهم- صورة واحدة، و خالفهم في ذلك المشهور بين المتأخرين فقالوا: إنّه إذا مات نصراني و له أولاد صغار و هم محكومون بالكفر تبعا- على ما تقدّم الكلام فيه في باب الطهارة «1» و قلنا: إن الأولاد في حكم الآباء و الأمهات، فيحكم بكفرهم، فكما أن الكافر البالغ لا يرث، ولد الكافر أيضا لا يرث و هو في حكم أبويه- فإذا مات نصراني و له أولاد صغار، و كان للميت ابن أخ مسلم و ابن أخت مسلم ينتقل المال إليهما فيكون ثلثان لابن الأخ و ثلث لابن الأخت، و عليهما أن ينفقا بنسبة ما أخذا من التركة على الأولاد الصغار إلى أن يكبروا فيقطع عنهم الإنفاق. و إذا فرضنا أن الصغار أسلموا قبل أن يبلغوا تكون التركة لهم فتبقى عند الإمام، فإن بقوا على إسلامهم بعد بلوغهم

______________________________

(1) راجع التنقيح في شرح العروة الوثقى 2: 64، و ما بعدها.

محاضرات في المواريث، ص: 160

فيعطى المال لهم، و إلّا فيعطى إلى ابن الأخ و ابن الأخت، هكذا نسب إليهم.

استندوا في ذلك إلى ما روي عن أبي جعفر عليه السّلام «1» في هذا الموضوع، و وصف العلّامة و الشهيد قدّس سرّه- على ما في الجواهر «2»- هذه الرواية بالصحة، فتكون هذه الصورة مستثناة مما تقدّم.

و

نتكلم في هذه الرواية دلالة و سندا:

أمّا بحسب الدلالة فهي مشتملة على ثلاثة أحكام:

أولها: أن المسلم و إن كان بعيدا في الطبقات يحجب غير المسلم القريب، ففي مفروض الرواية أن ابني الأخ و الأخت المسلمين يحجبان الأولاد لأنهم محكومون بالكفر، و قد تقدّم الكلام في ذلك.

الثاني: أنه يجب عليهما الإنفاق على الصغار حتّى يكبروا و هذا حكم على خلاف القاعدة ابن أخ الميت طبعا يكون ابن عم هؤلاء الصغار، كما أن ابن أخته ابن عمتهم، و وجوب الإنفاق على ابن العم أو ابن العمّة على خلاف القاعدة فإنّه لا دليل على وجوب الإنفاق عليهم، فإن الوارد في الروايات سئل الإمام عليه السّلام عمن يجب الإنفاق عليه، قال عليه السّلام: «الأبوان و الأولاد» «3» غير الأبوين و الأولاد لا يجب الإنفاق عليهم، و هذه الرواية مشتملة على وجوب الإنفاق على ابني العم و العمة و هو خلاف القاعدة.

الثالث: أن الإسلام بعد القسمة- كما ذكرنا- لا أثر له، و هذه الرواية ظاهرها بل كالصريحة في أن الإسلام كان بعد القسمة و قد انتقل الثلثان إلى ابن الأخ و الثلث

______________________________

(1) الوسائل 26: 18 باب 2 من أبواب موانع الإرث، ح 1.

(2) الجواهر 39: 28.

(3) راجع الوسائل 21: 525 باب 11 من أبواب النفقات.

محاضرات في المواريث، ص: 161

إلى ابن الأخت و بعد ذلك إذا أسلموا و هم صغار- يعني قبل بلوغهم و لو بخمس سنين أو بعشر سنين أو بأكثر أو أقل- إذا أسلموا كانت التركة لهم بشرط أن يبقوا على إسلامهم إلى زمان البلوغ.

هذا أيضا على خلاف القاعدة، لأنّ الإسلام بعد القسمة لا أثر له على ما تقدّم.

و لكن لو كانت الرواية صحيحة معتبرة لأمكن الاعتماد

عليها فتكون مخصصة لما دلّ على عدم وجوب الإنفاق على غير العمودين، و ما دل على أن الإسلام بعد القسمة لا أثر له، في خصوص المقام نلتزم بوجوب الانفاق، و أن الإسلام بعد القسمة يترتب عليه الأثر بشرط أن يبقى مستمرا إلى ما بعد البلوغ- كما هو مفروض الرواية.

و لكن الإشكال في سند هذه الرواية- و إن وصفت بالصحة كما ذكرناه.

و الوجه في ذلك أن الرواية مذكورة في الكافي و في التهذيب عن (مالك بن أعين) و لا يبعد أن يكون مالك بن أعين منصرفا إلى مالك بن أعين الجهني، و هو و إن لم يوثق في كتب الرجال لكنه ثقة عندنا، فكان يمكن الحكم بالصحة باعتبار وروده في أسناد كامل الزيارات «1» إلّا أن الشيخ الصدوق قدّس سرّه روى هذه الرواية بعينها بهذا السند بعينه يعني أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن هشام بن سالم عن (مالك بن أعين) كما في الكافي «2» و التهذيب «3»، و رواها الشيخ الصدوق بنفس السند عن (عبد الملك ابن أعين) أو (مالك بن أعين) على نحو الترديد لا يعلم أن

______________________________

(1) لا يخفى أن سيدنا الأستاذ قد عدل أخيرا عن هذا الرأي فتكون الرواية ضعيفة على جميع التقادير.

(2) الكافي 7: 143، ح 1.

(3) التهذيب 9: 368، ح 14.

محاضرات في المواريث، ص: 162

الراوي هو (عبد الملك) أو أنّه (مالك) فكأن الشيخ الصدوق قد نسي ذلك و اشتبه الأمر عليه فلم يدر أن الراوي الأخير هو عبد الملك أو مالك بن أعين.

و باعتبار أن الترديد بين هذين الرجلين فيطمأن بأن مالك بن أعين هو أخو زرارة- و إن لم يوجد له رواية في الكتب الأربعة يقينا، يعني

لا نتيقن بأن الراوي مالك بن أعين هو أخو زرارة في غيرها من الروايات و لكن خصوص هذه الرواية- و قد أشرنا إلى هذا في المعجم «1»- باعتبار أن الشيخ الصدوق رواها مرددا، الترديد بين الأخوين أنّه أيهما روى هذه الرواية، ففي الكافي و التهذيب خصوص (مالك بن أعين) و في كلام الشيخ الصدوق أحدهما لم يعلم هذا أو ذاك، فعلى ذلك (مالك بن أعين) أخو زرارة ليس منا مخالف و هو غير مستقيم و لم يرد فيه توثيق أبدا.

فإذا تكون الرواية ضعيفة و لا يمكن الاعتماد عليها.

و لكن صاحب الوسائل قدّس سرّه روى هذه الرواية عن الشيخ الصدوق هكذا: أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن هشام بن سالم عن عبد الملك بن أعين و مالك بن أعين جميعا عن أبي جعفر عليه السّلام بكلمة (جميعا) «2» و لم يعلم أن صاحب الوسائل يروي هذه الرواية عن أي نسخة، نسخ الفقيه كما ذكرناه و في الوافي نقل هذه الرواية عن الشيخ الصدوق كما في الكافي و التهذيب، كلمة (أو) أيضا غير موجودة في الوافي.

فعلى أي حال لم يثبت أن الراوي لهذه الرواية مجموع الأخوين مالك و عبد

______________________________

(1) معجم رجال الحديث 15: 160- 161.

(2) الوسائل 26: 18 باب 2 من أبواب موانع الإرث، ح 1.

محاضرات في المواريث، ص: 163

الملك ابنا أعين، و الظاهر أنّه اشتباه من قلم صاحب الوسائل قدّس سرّه.

و لو أغمضنا عن ذلك و فرضنا أن نسخ الفقيه كلّها كانت متفقة على ما ذكره صاحب الوسائل، و كان الراوي مالك و عبد الملك ابنا أعين (جميعا) على ذلك أيضا لا تثبت صحة الرواية، فإن رواة هذه الرواية متحدين في طريق الشيخ

و الكليني و الصدوق قدّس سرّه يعني أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن هشام بن سالم عن مالك بن أعين كما في الكافي و التهذيب، و عن عبد الملك بن أعين و مالك بن أعين جميعا عن أبي جعفر عليه السّلام على ما في الفقيه- لو قلنا بصحة نسخة الوسائل- لا يحتمل أن هؤلاء الرواة المتسلسلين إلى أن ينتهي إلى أحمد بن محمّد رووه في طريق الكافي عن خصوص مالك بن أعين و في طريق الصدوق عن مالك و عبد الملك ابنا أعين، بل إمّا أنّه اشتباه في طريق الصدوق أو أنّه اشتباه في طريق الكافي و التهذيب يعني لا نحتمل أن أحمد بن محمّد رواه مرتين، و ابن محبوب رواه مرتين، هشام ابن سالم رواه مرتين و في المرتبة الأخيرة أحمد بن محمّد في طريق الصدوق رواها عن مالك و عبد الملك جميعا، و في طريق الكافي و التهذيب عن مالك فقط لا يحتمل ذلك.

الرواية رواية واحدة و لا يعلم أن الراوي هو مجموع الأخوين أو أنّه أحدهما فقط، فتسقط الرواية عن الحجية و لا يمكن الاعتماد عليها، كما ذهب إليه المتأخرون منهم صاحب الجواهر «1» قدّس سرّه فطرحوها من جهة الضعف.

و لم يظهر لنا وجه تصحيح العلّامة و الشهيد قدّس سرّهما، و لا سيما الشهيد الذي هو متضلع في علم الرجال لأي وجه صحح هذه الرواية لم يظهر لنا وجه ذلك.

______________________________

(1) الجواهر 39: 29- 30.

محاضرات في المواريث، ص: 164

إذا الصحيح ما ذهب إليه المتأخرون من أن المال ينتقل إلى ابن الأخ و ابن الأخت- كما ذكرنا- و لا يجب عليهم الإنفاق على الصغار، و لا أثر لإسلام الوارث بعد ذلك و

لا يترتب عليه أي شي ء.

محاضرات في المواريث، ص: 165

المراد بالكفر و الإسلام في هذه المباحث؟

ثمّ إن ما ذكرناه من أن المسلم لا يرثه الكافر أبدا في أي طبقة كان فإن لم يكن للمسلم وارث مسلم في إحدى الطبقات فينتهي الأمر إلى الإمام عليه السّلام لأنّه وارث من لا وارث له، و الكافر يرثه المسلم في أي طبقة كان و يحجب الكافر عن الإرث، فإذا لم يكن وارث مسلم في جميع الطبقات يرثه ورثته الكفار و لا ينتهي الأمر إلى الإمام.

إذا ما هو المراد بالكفر هنا؟

المراد بالكفر هنا هو الكفر في مقابل الإسلام كما في الروايات: (أهل ملتين لا يتوارثان) فصّل عليه السّلام فقال: «نحن نرثهم و هم لا يرثوننا، لأن الإسلام لا يزيد إلّا عزّا، أو لا يزيد إلّا شدّة» «1».

فالمراد الإسلام في مقابل الكفر، و لا فرق في المسلم بين أنواعه و أصنافه على اختلاف مذاهبهم، كلّ من يعترف باللّه و بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بما أنزل إليه و بالآخرة يحكم بإسلامه و إن كان فاسد العقيدة من بقية الجهات.

و المراد بالكافر كلّ من لا يحكم بإسلامه و يكون منكرا لأحد هذه الأمور: إمّا

______________________________

(1) راجع الوسائل 26: 11 و ما بعدها، و ما في المتن هو مضمون روايات الباب 1 من أبواب موانع الإرث.

محاضرات في المواريث، ص: 166

الألوهية، أو الرسالة، أو الآخرة.

و أمّا الكفر في مقابل الطاعة كما في بعض الروايات أو في مقابل الإيمان كما في البعض الآخر من الروايات، فهو كفر بالولاية أو كفر بالنعمة إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً «1» من يكون كافرا بالسبيل و بالهداية كلّ ذلك لا يكون مانعا عن الإرث، فالكفر

في مقابل الطاعة أو في مقابل الإيمان أو النعمة و إن أطلق عليه الكافر كتارك الصلاة و تارك الحجّ و تارك الولاية كلّ أولئك أطلق عليه الكافر إلّا أنّ هذا لا يمنع من الإرث، و إنّما المانع هو الكفر في مقابل الإسلام.

و قد دلّت على ذلك غير واحد من الروايات المعتبرة و قد ذكرت في (الكافي) في باب الفرق بين الإسلام و الإيمان، ففي هذه الروايات صرح بأن الإسلام ما عليه الناس و عليه جرت المناكح و المواريث [1] و في مقابله الإيمان و له حكم آخر.

فالمواريث و المناكح إنّما يترتبان على ما عليه الناس يعني الاعتراف باللّه و برسوله، فلا أثر للانحراف في العقيدة إذا كان محكوما بالإسلام [2].

______________________________

[1] قال سماعة: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أخبرني عن الإسلام و الإيمان أ هما مختلفان؟ فقال: «إن الإيمان يشارك الإسلام و الإسلام لا يشارك الإيمان، فقلت: فصفهما لي، فقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلّا اللّه، و التصديق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس، و الإيمان الهدى و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام و ما ظهر من العمل به، و الإيمان أرفع من الإسلام بدرجة، إن الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر، و الإسلام يشارك الإيمان في الباطن و إن اجتمعا في القول و الصفة» أصول الكافي 2: 25.

[2] ففي حديث سفيان بن السمط: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الإسلام و الإيمان ما الفرق بينهما؟ فقال:

«الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس: شهادة أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أن محمّدا عبده

و رسوله و إقام الصلاة و ايتاء الزكاة و حجّ البيت و صيام شهر رمضان، فهذا الإسلام و قال: الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا، فإن أقرّ بها و لم يعرف هذا الأمر كان مسلما و كان ضالا» نفس المصدر السابق.

______________________________

(1) الإنسان: 3.

محاضرات في المواريث، ص: 167

نعم إذا فرضنا أنّه محكوم بالكفر حتّى مع اعترافه باللّه و برسوله و باليوم الآخر، فهو محكوم بالكفر تعبدا، فهذا يمنع من الإرث كالنواصب على ما ذكرناه في كتاب الطهارة «1» من أنّهم محكومون بالكفر حتّى مع اعترافهم باللّه و برسوله و بالآخرة، بل هم أنجس من الكلب و الخنزير قال: «و الناصب لنا أهل البيت أنجس من الكلب و الخنزير» [1].

فهذا خارج بالدليل، و لذا نقول بعدم جواز مناكحتهم و لا تجري عليهم أحكام المواريث لأنهم محكومون بالكفر بمقتضى الأدلّة المتقدّمة.

و كذلك بعض الفرق المنتحلين للإسلام إذا كانت عقائدهم على نحو ترجع إلى إنكار الألوهية و الخلق، أو إنكار النبوّة أو المعاد، فيحكم بكفرهم كالقائلين بوحدة الوجود من الصوفية- على ما نسب إليهم- و يوجد كثيرا في أشعارهم و في بعض المتون أيضا ما يدلّ على كفرهم [2] كما في عبارة محيي الدين بن عربي: «الحمد للّه

______________________________

[1] الوسائل 1: 219 باب 11 من أبواب الماء المضاف، ح 4 و 5، إلّا أنّه لم يذكر الخنزير في روايات الوسائل. ففي موثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) قال: «و إياك أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها تجتمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت فهو شرهم، فإن اللّه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا انجس من الكلب و

إنّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه».

[2] الشي ء المسلّم به لدى المحققين من فقهائنا هو أن القول بوحدة الوجود قول باطل لاستلزامه للشرك باللّه تبارك و تعالى و الخروج عن الدين الحنيف فلا يصح للمسلم الذهاب إلى هذا القول.

إلّا أن الكلام في أن القائل بوحدة الوجود إذا كان مظهرا للشهادتين و مقرا بالمعاد و لم يظهر منه الالتزام باللوازم الفاسدة التى تترتب على عقيدته هل يحكم بكفره أم أنّه تجري عليه أحكام الإسلام؟

فقد ذهب الفقهاء في هذا المقام إلى الحكم بطهارتهم و إجراء أحكام الإسلام عليهم ما لم يظهر منهم الالتزام بما يترتب على قولهم من اللوازم الفاسدة، لأنّ الإسلام كما تقدّم هو عبارة عن إظهار الشهادتين

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى 3: 69، و ما بعدها.

محاضرات في المواريث، ص: 168

الذي خلق الأشياء و هو عينها». [1]

فهم يعتقدون وحدة الوجود و أن وجود الخالق و المخلوق شي ء واحد، إذا لوحظت المراتب يكون خلقا، و إذا ألغيت المراتب فهو نفس الخالق، فالواجب و الممكن شي ء واحد موجود واحد و إنّما يختلف بالاعتبار، فهو باعتبار حدّه ممكن و مخلوق و إذا ألغي الحد يكون واجبا.

______________________________

و الإقرار بيوم الجزاء فإذا كانوا ملتزمين بذلك و لم يظهر منهم الكفر جرت عليهم أحكام الإسلام بالرغم من فساد عقيدتهم، فقد قال الفقيه العظيم السيّد اليزدي قدّس سرّه في العروة الوثقى: «و القائلين بوحدة الوجود من الصوفية إذا التزموا بأحكام الإسلام فالأقوى عدم نجاستهم إلّا مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم من المفاسد» [العروة الوثقى: 1: 140، المسألة (2) من نجاسة الكافر].

و هذا ليس بعزيز في الفقه، فقد حكم الفقهاء بطهارة كثير من أهل العقائد الفاسدة المستلزمة للشرك و الكفر كالأشاعرة القائلين

بالجبر و أن اللّه يجبر العباد على المعاصي ثمّ يعذّبهم، و كذا المجسمة القائلين بأنّه تعالى جسم، فالفقهاء أجروا على هؤلاء أحكام الإسلام إذا لم يظهر منهم الالتزام باللوازم الفاسدة المترتبة على مذاهبهم.

فيجري هذا الكلام نفسه بالنسبة إلى القائلين بوحدة الوجود فإذا لم يظهروا الالتزام بما يترتب على مذهبهم من اللوازم الفاسدة جرت عليهم أحكام الإسلام، و أمّا إذا التزموا بذلك فهم محكومون بالكفر و قد ذهب إلى ذلك سيدنا الأستاذ كما في كتاب الطهارة من التنقيح [التنقيح في شرح العروة الوثقى 3:

74، و ما بعدها.]، و السيّد الحكيم في مستمسكه [مستمسك العروة الوثقى 1: 391]، و غير هؤلاء من المحشين و المعلقين على العروة الوثقى.

[1] فقد ذكر في الفتوحات المكيّة 2: 459: «فمن هنا تعرف العالم من هو و صورة الأمر فيه إن كنت ذا نظر صحيح وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلٰا تُبْصِرُونَ ما ثمّ إلّا النفس الناطقة و هي: العاقلة و المفكرة و المتخيلة و الحافظة و المصوّرة و المغذية و المنمّية و الجاذبة و الدافعة و الهاضمة و الماسكة و السامعة و الباصرة و الطاعمة و المستنشقة و اللامسة و المدركة لهذه الأمور و اختلاف هذه القوى و اختلاف الأسماء عليها و ليست بشي ء زائد عليها، بل هي عين كلّ صورة، و هكذا تجد في صور المعادن و النبات و الحيوان و الأفلاك و الأملاك «فسبحان من أظهر الأشياء و هو عينها».

فما نظرت عيني إلى غير وجهه و ما سمعت أذني خلاف كلامه

فكل وجود كان فيه وجوده.

محاضرات في المواريث، ص: 169

و هذا يرجع في الحقيقة إلى إنكار خالق غير الموجودات الخارجية.

و يحتمل أن يكون هذا أيضا مراد مثنوي في قوله:

چون

كه بى رنگى أسير رنگ شد موسئي با موسئي در جنگ شد

چون به بى رنگى رسي كآن داشتى موسى فرعون دارد آشتي [1]

______________________________

[1] و قد شرح هذين البيتين كريم زماني في كتابه «شرح جامع مثنوي معنوي»: 646، بالفارسية فقال:

چنان كه با سير و سلوك و تهذيب درون بمقام بى رنگى و وحدت برسى در آن مقام موسى و فرعون با هم در آشتى و سازگارى اند، شبسترى نيز همين معنا را بيان داشته است:

مسلمان گر بدانستى كه بت چيست بدانستى كه دين در بت پرستي است

و گر مشرك ز بت آگاه گشتي كجا در دين خود گمراه گشتى

و شيخ محمّد لاهيجى در شرح اين نكته گفته است: «اگر مسلمان كه قائل بتوحيد است و إنكار بت مى نمايد بدانستى و آگاه شدي كه في الحقيقة بت چيست؟ و مظهر كيست؟ و ظاهر بصورة بت چه كسى است؟ بدانستى كه البته دين حق در بت پرستي است، زيرا كه بت مظهر هستى مطلق است كه حق است، پس بت من حيث الحقيقة حق باشد و دين و عادة مسلمانى حق پرستى است، و بت پرستى عين حق پرستى است، پس هر آينه دين در بت پرستى باشد».

البيتان من الشعر مع الشرح لكبار الصوفيه القائلين بوحدة الوجود و هذا هو اللازم الفاسد للقول بوحدة الوجود حيث أنّهم يلتزمون بأن وجود الخالق هو عين وجود المخلوق و يشبّهون الخالق تعالى بالبحر و المخلوقات بأمواج البحر فباعتبار أنّه يتراءى للناظر أن الموج شي ء آخر غير البحر و الحال أنّه هو عين ماء البحر فكذلك المخلوق هو عين الخالق و عليه فإن وجود الصنم الذي هو مظهر من مظاهر الوجود هو

عين وجود الحق تعالى و أنّه في الحقيقة قد ظهر الحق تعالى بمظهر الصنم، فإذا عبادة الصنم هي عين عبادة اللّه تعالى كما أن الإنسان أيضا هو مظهر من مظاهر الوجود المطلق فهو الحقّ تعالى قد ظهر بمظهر الإنسان فإذا لا فرق بين عبادة اللّه تعالى و عبادة فرعون لأن فرعون مظهر من مظاهر الحق ..

و هكذا.

محاضرات في المواريث، ص: 170

أي أنّه لا فرق بين موسى و فرعون إلّا بالحدّ فإذا ألغي الحد فموسى و فرعون شي ء واحد، فلو صح أن مراده هذا من هذا الكلام فهو يرجع إلى الكفر.

الكفّار يتوارثون على اختلاف أديانهم:

ثمّ إن الكفر ملّة واحدة لا فرق بين أفراده: اليهودي يرث من النصراني و النصراني يرث من اليهودي و المجوسي كذلك.

و أمّا الرواية الواردة في أن أهل ملّتين لا يتوارثان فقد فسّرت- كما ذكرنا- بأن المسلم لا يرثه الكافر و هو يرث من الكافر [1]، و أمّا الكافر من الكافر فبمقتضى إطلاق الآية المباركة الإرث مشترك بين الجميع.

________________________________________

خويى، سيد ابو القاسم موسوى، محاضرات في المواريث، در يك جلد، مؤسسة السبطين (عليهما السلام) العالمية، قم - ايران، اول، 1424 ه ق

محاضرات في المواريث؛ ص: 170

______________________________

هذا هو اللازم الفاسد من القول بوحدة الوجود و هذه هي عقيدتهم الفاسدة و الضلال الذي هم عليه و إن كانوا يظهرون التوحيد إلّا أنّ واقعهم هو هذا و هذه العقيدة منافية لصريح القرآن الكريم و منافية لسيرة أنبياء اللّه تعالى فإنّه لو كان الصنم حقّا و فرعون حقّا و أن عبادتهم هي عين عبادة اللّه تعالى لما ذم اللّه تعالى عبّاد الأصنام و لما وقف الأنبياء موقفهم الحازم من محاربة الأصنام و محاربة فرعون و أدى ذلك إلى استفزاز

الناس و مخالفتهم للأنبياء و لكان الأولى أن يقرّوهم على هذه العبادات لينقادوا إليهم و يطيعوهم.

[1] راجع الوسائل 26: 12 باب 1 من أبواب موانع الإرث فقد دلّت الروايات المستفيضة على ذلك، منها ما عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «المسلم يحجب الكافر و يرثه، و الكافر لا يحجب المسلم و لا يرثه».

محاضرات في المواريث، ص: 171

أحكام المرتد من غير جهة الإرث

اشارة

تقدّم الكلام في موت المرتد بقسميه و تحدثنا عن إرثه، و هذا الفصل عقدناه للتكلّم عن بقية أحكام المرتد من غير جهة الإرث إتماما للفائدة و لمناسبة المقام

محاضرات في المواريث، ص: 173

تقدّم الكلام في أن الكافر لا يرث من المسلم مطلقا فإن لم يكن للمسلم وارث مسلم ورثه الإمام عليه السّلام و لا ينتقل منه شي ء إلى الكافر.

كما أن الكافر إذا مات و له وارث مسلم يكون هو الوارث و يحجب الكافر و إن كان مقدّما عليه في الطبقة.

كما و قد تكلّمنا عن المرتد الملي و المرتد الفطري إذا ماتا.

فهذه الأحكام التي استفدناها من الروايات مطلقة لكلّ كافر و لكلّ مسلم من غير فرق بين من يكون مسلما بنفسه و بالأصالة، أو يكون مسلما بالتبعية، و كذلك في الكافر فكل مسلم لا يرثه الكافر من غير فرق بين أن يكون كفره بالتبعية أو بغير التبعية، و ذلك لإطلاق الأدلّة.

و قد تكلّمنا أيضا في الإسلام بالتبعية و كذا الكفر بالتبعية في كتاب الطهارة مفصلا و أنّ الأطفال يتبعون آباءهم و أمّهاتهم فيكون إسلامهم و كفرهم بالتبعية و تفصيل الكلام هناك «1».

يبقى الكلام في المرتد الملي و الفطري من غير جهة الإرث في بقية الأحكام، فيقع الكلام تارة في موضوعهما، و اخرى في حكمهما، أيضا وقع

الكلام في ذلك في الجملة في كتاب الطهارة و نعيده ثانيا.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى 3: 59 و 3: 238.

محاضرات في المواريث، ص: 174

1- الكلام في موضوع الارتداد:
اشارة

الروايات الواردة في المقام بالنسبة إلى المرتد الفطري و بالنسبة إلى المرتد الملّي ذكر في بعض الروايات المعتبرة: «أن من كفر بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بما أنزل عليه فيقتل» «1» فهذه المعتبرة مطلقة بالنسبة إلى الفطري و الملّي.

كما أن بإزائها معتبرة أخرى دلت على أن من ارتد يستتاب فإن لم يتب يقتل «2». هذا أيضا مطلق للفطري و الملّي.

و هناك طائفة ثالثة فصّلت بين من كان مسلما ثمّ كفر و تنصّر، و بين من كان نصرانيا ثمّ أسلم ثمّ تنصّر: فإذا كان من الأوّل مسلما فيحكم بقتله، و إذا كان نصرانيا فأسلم ثمّ تنصّر يستتاب» «3». فهذه الصحيحة تكون مقيدة لكلتا الصحيحتين المتقدّمتين.

فتكون النتيجة:

أن من كان كافرا فأسلم ثمّ تنصّر فهذا مرتد ملّي لا يقتل بل يستتاب فإن تاب

______________________________

(1) الوسائل 26: 27 باب 6 من أبواب موانع الإرث ح 5، عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المرتد فقال: «من رغب عن الإسلام و كفر بما أنزل اللّه على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد إسلامه فلا توبة له و قد وجب قتله».

(2) الوسائل 28: 327 باب 3 من أبواب حد المرتد ح 2، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام في المرتد يستتاب فإن تاب و إلّا قتل و ح 3، عن أحدهما عليهما السّلام في رجل رجع عن الإسلام فقال: «يستتاب فإن تاب و إلّا قتل».

(3) الوسائل 28: 325 باب 1 من أبواب حد المرتد ح 5، عن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السّلام قال:

سألته عن مسلم تنصّر، قال: «يقتل و لا يستتاب»، قلت:

فنصراني أسلم ثمّ ارتد، قال: «يستتاب فإن رجع و إلّا قتل».

محاضرات في المواريث، ص: 175

و إلّا قتل.

و إذا كان مسلما من الأوّل ثمّ ارتد فلا تصل النوبة إلى الاستتابة بل يقتل ابتداء.

فالصحيحة الثالثة تقيّد الصحيحتين المتقدّمتين و تكون النتيجة ما ذكرناه.

ثمّ إنّه بما ذا يثبت الإسلام من الأوّل؟

المشهور المعروف بينهم، بل لا خلاف في المسألة أن من تولد مسلما يعني حينما ولد ولد مسلما ثمّ بعد ذلك كفر فيكون مرتدا فطريا، لأنّه لم يكن مسبوقا بالكفر في أي زمان.

و أمّا من ولد كافرا ثمّ بعد ذلك أسلم ثمّ تنصّر يكون مرتدا مليا فتقبل توبته.

و هذا الذي ذكروه يستفاد من عدّة روايات:

منها: ما دلّ على أن المسلم إذا مات و كانت زوجته حاملا يعزل ميراث الحمل فإن ولد حيا فهو، و إلّا فيعطى لبقية الورثة «1»- و سنتكلم فيه إن شاء اللّه تعالى- و الحكم متسالم عليه و الروايات دالة عليه، و هذه الروايات تدلّ على أن الحمل يرث و لكن مراعا بالولادة حيا، و هي مطلقة شاملة لما إذا كانت المرأة الحامل غير مسلمة- كما إذا كانت كتابية بعقد انقطاع أو بعقد دوام أو بملك يمين- فبمقتضى الإطلاق يحكم بالإرث حتّى إذا كانت الزوجة كافرة، فيكشف عن أن إسلام الأب يكفي في إسلام ولده لما دلّ على أن المسلم لا يرثه إلّا مسلم، فإذا حكم بإرثه يحكم بإسلامه بالملازمة.

و كذلك العكس لو فرضنا أن امرأة مسلمة حملت من كافر إمّا من جهة وطئ

______________________________

(1) راجع الوسائل 26: 302 باب 7 من أبواب ميراث الخنثى و ما أشبه.

محاضرات في المواريث، ص: 176

الشبهة مثلا، أو أنّها كانت كافرة فحملت من زوجها الكافر ثمّ أسلمت قبل

أن تلد- يعني أن إسلامها كان أثناء الحمل- ثمّ ولدت ثمّ ماتت.

بمقتضى إطلاقات الأدلّة أنّها ماتت مسلمة و ولدها يرثها، فيحكم بإرث الولد من أمّه المسلمة مع أن والده كان كافرا، فإذا صدق الإرث صدق الإسلام بالملازمة، فحينئذ يدخل تحت قوله عليه السّلام: «من كان مسلما ثمّ كفر بما أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقتل» «1».

فهذا الولد يحكم بإسلامه فإذا ارتد تجري عليه أحكام المرتد الفطري.

و في بعض الروايات المعتبرة و هي رواية إسحاق بن عمار: «من ولد بين مسلمين ثمّ ارتد و كفر بما أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقتل» «2» فقد ذكر في هذه الرواية أنّه ولد بين مسلمين، و لكن ليس لها مفهوم ينفي ما عدا ذلك، بل تحمل على الغالب لأن التولّد من كافر و مسلم قليل جدا، فالرواية الدالة على أن من ولد من مسلم واحد ولد مسلما يعمل بها، و هذه الرواية تحمل على الغالب، فلا يعتبر في المرتد الفطري أن يكون والداه مسلمين بل يكفي أن يكون أحد أبويه مسلما.

و يدلّ على ذلك أيضا غير ذلك من الروايات منها ما ورد في أن الطفل إذا كان أحد والديه نصرانيّا يضرب حتّى يسلم «3»، فيظهر من هذه الرواية أيضا أنّه مسلم.

فكيف كان فكل من حكم بإسلامه من أوّل ولادته ثمّ كفر بعد ذلك فهو مرتد

______________________________

(1) هذا مضمون رواية علي بن جعفر التي مرت في الهامش رقم 1 ص 174.

(2) الوسائل 28: 324 باب 1 من أبواب حد المرتد مضمون، ح 3، و الرواية عن عمار الساباطي و ليست عن اسحاق بن عمار و إليك نصّ الحديث: عن عمار

الساباطي، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «كلّ مسلم بين مسلمين ارتدّ عن الإسلام و جحد محمّدا صلى اللّه عليه و آله و سلّم نبوّته و كذّبه، فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلك منه .. الخ».

(3) الوسائل 28: 326 باب 2 من أبواب حد المرتد ح 2.

محاضرات في المواريث، ص: 177

فطري.

بقي الكلام في أن من ولد على الفطرة هل يشترط في الحكم بكونه مرتدا فطريا أن يظهر الإسلام بعد البلوغ ثمّ يرتد؟ أو أنّه إذا لم يظهر الإسلام بل أظهر الكفر قبل البلوغ و بلغ كافرا أيضا يعدّ مرتدا فطريا باعتبار أنّه مولود بين مسلمين أو أن أحد أبويه مسلم؟

ذكر كاشف اللثام- على ما نسبه إليه صاحب الجواهر «1» قدّس سرّه- أنّه يعتبر في الارتداد الفطري أن يكون مسلما بعد بلوغه، فإذا كفر بعد ذلك يحكم عليه بأحكام المرتد الفطري «2».

و أمّا إذا فرضنا أنّه بلغ كافرا، و لو فرضنا أنّه متولد من مسلمين أو من مسلم واحد إلّا أنّه كفر قبل بلوغه و بلغ كافرا و لم يظهر الإسلام بعد بلوغه لا يحكم عليه بأحكام المرتد الفطري.

و قوّاه صاحب الجواهر «3» قدّس سرّه باعتبار أنّه ليس هنا مطلق يشمل ما إذا بلغ الولد كافرا، فهذا غير مشمول ظاهرا للمرتد الفطري لعدم الإطلاق، فإن الموضوع هو (الرجل) أو (المسلم) الظاهر في كونه بالغا، فإذا كان مسلما و هو بالغ ثمّ رجع إلى الكفر فهذا هو المرتد الفطري.

و أمّا إذا كان حال بلوغه كافرا و لم يسبق كفره بالإسلام حال البلوغ فهذا ليس من المرتد الفطري.

______________________________

(1) الجواهر 39: 34.

(2) كشف اللثام 2: 437.

(3) الجواهر 39: 34.

محاضرات في المواريث، ص: 178

هذا الذي ذكره

قدّس سرّه لا يمكن المساعدة عليه، فإنّه لا إشكال في أن الارتداد لا بدّ أن يكون حال البلوغ و لا بدّ من أن يكون رجلا، و إلّا فلا اعتبار بارتداد الصبي على ما تقدّم، إلّا أنّ الإطلاق يشمل ما إذا بلغ كافرا أيضا.

فلو فرضنا أنّه مولود بين مسلمين و محكوم بالإسلام إلّا أنّه بعد ما كبر و صار صبيا مميزا كفر- و قلنا إنّه لا أثر لذلك لا يحكم بارتداده قبل بلوغه- و استمرّ كفره إلى أن بلغ، صحيحة الحسين بن سعيد «1» بل غيرها غير قاصرة الشمول لمثل ذلك، يصح أن يقال: إن هذا رجل مولود على الإسلام و قد كفر بما أنزل اللّه على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حكمه القتل.

فالذي يعتبر هو أن يكون الكفر بعد البلوغ، و أمّا أن يكون قبل ذلك مسلما و هو بالغ لم يذكر في شي ء من هذه الأدلّة.

إذا اعتبار الإسلام بعد البلوغ ثمّ الكفر لم يدلّ عليه دليل، و الصحيح ما ذهب إليه المشهور من عدم اعتبار هذا القيد، فكلّ من كان محكوما بالإسلام من أوّل ولادته إذا كفر بعد بلوغه- و إن لم يسلم بعد البلوغ- يحكم بأنّه مرتد فطري.

و أمّا إذا فرضنا أنّه ولد كافرا كان أبواه كافرين فولد كافرا، فأسلم أبوه و هو طفل و بالتبعية حكم بإسلامه أيضا- و لكن بعد ولادته كافرا- ثمّ بلغ و اعترف بالإسلام بعد بلوغه، ثمّ كفر فما هو حكمه؟

نسب إلى كاشف اللثام- كما في الجواهر «2»- أنّه قال: هو أيضا مرتد فطري «3»،

______________________________

(1) الوسائل 28: 325 باب 1 من أبواب حد المرتد، ح 6.

(2) الجواهر 39: 33.

(3) كشف اللثام 2: 437.

محاضرات في

المواريث، ص: 179

و لا نعلم وجه ذلك، لما ذا يكون هذا مرتدا فطريا مع أنّه مسبوق بالكفر و إسلامه بعد الكفر؟! الظاهر أنّه مرتد ملّي فهو كان كافرا بالولادة، ثمّ أسلم أبوه حال طفولته فتبعه، ثمّ أسلم هو بعد البلوغ، ثمّ كفر فهو مرتد ملّي لأنّه مسبوق بالكفر.

النتيجة:

تحصّل من مجموع ما تقدّم: أنّه من كان محكوما بالإسلام من الأوّل و لم يسبق منه كفر إذا ارتد بعد ذلك فهو مرتد فطري.

و كلّ من كان كافرا ثمّ أسلم ثمّ كفر فكان إسلامه بين كفرين كفر سابق و كفر لاحق فهذا مرتدّ ملّي.

2- الكلام في حكم المرتد:
اشارة

أمّا المرتد الفطري فالظاهر أنّه لا خلاف بينهم في أنّه بمجرّد ارتداده ينتقل جميع ما يملكه إلى ورثته المسلمين، فارتداده بمنزلة الموت، يعني يحكم بانتقال ماله تعبدا و إن كان في حال الحياة.

و يقتل بلا استتابة و لا أثر لتوبته، فإذا تاب لم يرفع عنه القتل.

و تبين عنه زوجته و تعتد منه عدّة الوفاة، فلا تسقط عنه هذه الأحكام الثلاثة حتّى لو تاب.

و أمّا المرتد الملّي فهو ليس كذلك لا يقتل بل يستتاب فإن تاب فهو كأحد المسلمين و تجري عليه أحكام الإسلام.

و زوجته تبين عنه بالارتداد، و لكن تعتد عدّة الطلاق، فإن لم يتب يقتل- كما

محاضرات في المواريث، ص: 180

نتكلم فيه فيما بعد.

يبقى الكلام بالنسبة إلى المرتد الفطري:

فقد قلنا إنّه لا تنفع توبته بالنسبة إلى ما مرّ من الأحكام الثلاثة و هي:

تقسيم ماله بين ورثته. و بينونة زوجته منه. و وجوب قتله بلا استتابة.

هذه الأحكام الثلاثة لا إشكال في أنّها تترتب و لا يرتفع منها شي ء بالتوبة كما دلت على ذلك بعض الروايات «1».

و أمّا بالنسبة إلى غير ذلك من الأحكام فهل تقبل توبته واقعا بينه و بين اللّه تعالى؟ أو أن توبته لا تقبل و لا أثر لإسلامه و توبته بعد ذلك؟

و على تقدير قبول توبته واقعا فهل تقبل ظاهرا؟ فهل يحكم بطهارة بدنه؟ و هل له أن يتزوج بزوجة مسلمة زوجته الاولى أو غيرها من المسلمات؟ أم ليس له ذلك؟

فيه خلاف:

أمّا بالنسبة إلى قبول توبته واقعا فهذا مما لا ينبغي الشكّ فيه و أنّه مسلم واقعا، و أن اللّه تبارك و تعالى يتوب على من تاب إليه، و قد ورد في الآية المباركة التقييد بالموت كافرا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كٰافِرٌ فَأُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ «2» فالآية المباركة قيّدت كون الإنسان ممن حبطت أعماله في الدنيا و الآخرة و هو من أصحاب النار بما إذا مات و هو كافر فَيَمُتْ وَ هُوَ كٰافِرٌ، و أمّا إذا رجع عن كفره

______________________________

(1) راجع الوسائل 26: 27 باب 6 من أبواب موانع الإرث ح 5.

(2) البقرة: 217.

محاضرات في المواريث، ص: 181

و مات لا يكون داخلا في الآية المباركة، فلا شكّ في قبول توبته إذا كانت توبته صحيحة، بل و كذا بالنسبة إلى قبول التوبة ظاهرا، و ذلك لإطلاق أدلّة التوبة و بعضها عامّة: «التائب من ذنبه كمن

لا ذنب له» «1» و لا فرق في ذلك بين المرتد و غيره، وجوب القتل لا ينافي كونه مسلما، في كثير من الموارد صدق ذلك أنّه مسلم و يجوز قتله، مثل سابّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سابّ الأئمّة المعصومين عليهم السّلام «2» يقتل مع أنّه غير محكوم بكفره، الزاني يقتل في بعض الموارد و هو غير محكوم بكفره، فلا منافاة بين أن يكون الإنسان مسلما و يحكم بجواز أو وجوب قتله من جهة المصلحة العامّة.

فأدلّة التوبة من الكتاب و السنّة شاملة لمثل ذلك، و كذلك ما دلّ على أن من أقرّ بالشهادتين تجري عليه أحكام الإسلام «3» له ما للمسلمين و عليه ما عليهم فذلك يشمل المرتد الفطري إذا تاب و شهد الشهادتين بمقتضى تلك الروايتين يحكم بإسلامه فيحكم بطهارته، و جواز تزويجه من مسلمة سواء كانت زوجته الاولى أو غيرها.

و يدلّ على ذلك أيضا القطع الوجداني بأنّه مكلّف بالأحكام العبادية بعد ما أقرّ بالإسلام و شهد الشهادتين فلا يكون مهملا كأنّه غير موجود كالأنعام، بل هو مكلّف لا محالة و من الظاهر أنّه يعتبر في الصلاة و الصيام الإسلام و لا تصح من

______________________________

(1) أصول الكافي 2: 435.

(2) الوسائل 28: 323 باب 1 من أبواب حد المرتد، ح 1.

(3) سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الإسلام و الإيمان .. فقال: «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس:

شهادة أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أنّ محمّدا عبده و رسوله و إقام الصلاة و إتيان الزكاة و حجّ البيت و صيام شهر رمضان فهذا الإسلام، و قال: الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا، فإذا أقرّ بها

و لم يعرف هذا الأمر كان مسلما و كان ضالا» الكافي 2: 24.

محاضرات في المواريث، ص: 182

الكافر، فإذا لم يحكم بإسلامه كيف يمكنه الصلاة و الصوم؟! فثبوت التكليف بالصلاة و الصيام يقتضي الحكم بإسلامه، و إلّا يكون تكليفا بما لا يطاق و هو غير ممكن.

هذا أيضا يؤكد ما ذكرناه من أن توبته مقبولة ظاهرا كما هي مقبولة واقعا فيعامل معه معاملة المسلم إن لم يقتل لمانع من الموانع.

يبقى الكلام فيما يكتسبه حال ردّته و قبل توبته، أو بعد توبته- إن قلنا بعدم قبول توبته.

قد تقدّم الكلام في ذلك في الجملة في كتاب الطهارة فقد ذكر صاحب العروة «1» قدّس سرّه هناك أنّه تصح معاملاته بعد توبته بعد ما اختار قبول توبة المرتد الفطري واقعا و ظاهرا.

قلنا و يستفاد ذلك من عبارة المحقّق القمّي قدّس سرّه في (جامع الشتات) «2» في موردين جعل قبول معاملاته و صحة تصرفاته متفرعة على قبول توبته. و كذلك الشهيد قدّس سرّه في (الروضة) «3» و قد ذكر صاحب (الجواهر) «4» قدّس سرّه عبارة الشهيد و لم يعلّق عليها من هذه الجهة أي من جهة توقف صحة التكسب على التوبة فكأنّه متسالم عليه عندهم بأنّه لا يصح تكسّب المرتد حال كونه مرتدا، أو بعد ارتداده- إن قلنا بعدم قبول توبته ظاهرا.

و لكن لا يمكن المساعدة على ذلك بوجه، فإن المطلقات و العمومات شاملة

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى 4: 198 و ما بعدها.

(2) جامع الشتات 2: 616، باب المواريث، و أمّا في الحدود فلم نعثر على شي ء دالّ على ذلك، و قد نبّهنا على ذلك في تعليقتنا رقم (2) ص 145 عند الكلام عن المرتدّ الفطري.

(3) شرح اللمعة 9:

337، و ما بعدها.

(4) الجواهر 6: 296، و ما بعدها.

محاضرات في المواريث، ص: 183

لمثل ذلك، فلو فرضنا أنّه حاز شيئا و استولى على شي ء من المباحات الأصلية صاد سمكة أو طيرا أو صاد ظبيا أو قطع شجرة من البر، أو نحو ذلك كيف لا يكون مالكا مع أنّه استولى عليه؟! فهو له كسائر المسلمين، و كذا إذا آجر نفسه لعمل من بناء دار أو نقل متاع و غير ذلك، كيف لا يكون مالكا للأجرة مع أنّه مسلط على نفسه تشمله العمومات و المطلقات في أبواب المعاملات؟! فالقول بأنّه لا يملك شيئا بعد ارتداده لا ينبغي أن يقال أصلا و ليس له أي دليل.

فالصحيح أنّه لا فرق بين ما قبل التوبة و ما بعدها بناء على أن التوبة تقبل أو لا تقبل كلّ ذلك على حد سواء، فهو يملك كسائر البشر حاله حال سائر الكفرة.

و أمّا الكلام بالنسبة إلى المرتد الملّي:

فلا شكّ في أنّه لا يقتل ابتداء و إنّما يستتاب فإن تاب و إلّا قتل. و قد دلّت على ذلك صحيحة علي بن جعفر «1» و غيرها من أن القتل إنّما يكون بعد الاستتابة، فإن قتل أو مات انتقلت تركته إلى ورثته، فإن كان فيهم مسلم فهو له، و إلّا فعلى الخلاف المتقدّم في أنّ تركته لورثته الكفار أو أنّها للإمام عليه السّلام و قد تقدّم الكلام فيه مفصلا.

أمّا بالنسبة إلى زوجته فتبين عنه بمجرد ارتداده و تعتد منه عدّة الطلاق على ما صرح به في معتبرة أبي بكر الحضرمي «2»، فيختلف هذا عن الفطري حيث قلنا أن زوجته تعتد عدّة الوفاة.

______________________________

(1) الوسائل 28: 325 باب 1 من أبواب حد المرتد، ح 5.

(2) الوسائل 26: 27 باب 6 من أبواب

موانع الإرث، ح 4.

محاضرات في المواريث، ص: 184

و هذه العدّة عدّة بائنة بمعنى أنّه لو تاب في أثناء العدّة ليس له أن يرجع، بل هو خاطب من الخطاب و لا بدّ له من عقد جديد.

نعم لا تعتبر العدّة بالنسبة إلى الزوج بل إنّما تكون بالنسبة إلى غير الزوج، فله أن يتزوجها في أيام عدّتها منه، و قد تقدّم الكلام في ذلك في كتاب النكاح و قلنا إنّه يجوز للزوج أن يتزوج زوجته المعتدة منه عدّة بائنة، كما في الخلع و المبارأة فالطلاق بائن و ليس للزوج الرجوع و لكن إذا أراد أن يتزوج بعقد جديد في أثناء العدّة لا بأس به.

يبقى الكلام في المدة المعتبرة في الاستتابة:

فقد ورد في معتبرة السكوني «1» أن مدة التوبة ثلاثة أيام و القتل يكون في اليوم الرابع إذا لم يتب، و لم يرد تحديد بزمان معين في غير هذه المعتبرة بل يستتاب- كما في صحيحة على بن جعفر «2»- فإن لم يتب يقتل و لو مقدار ساعة واحدة أو أقل أو أكثر.

يبقى الكلام فيما إذا تاب و رجع إلى الإسلام فرفع عنه القتل، ثمّ ارتد بعد ذلك ثانيا، فالحكم هو الحكم الأوّل أيضا لشمول الأدلّة له: مرتد ملّي يستتاب فإن تاب و إلّا قتل، فلو فرضنا أنّه تاب ثمّ ارتد ثالثا، فهل يقتل في الثالثة بلا استتابة، أو أنّه يستتاب فإذا ارتد رابعا يقتل في المرة الرابعة بدون استتابة؟ أو أنّه لا يقتل بل يستتاب و إن تكرر منه كثيرا إذا تاب يقبل منه و لا يقتل؟

ادعى الشيخ قدّس سرّه- على ما نسب إليه في الخلاف «3»- أنّه يقتل في المرة الرابعة بلا

______________________________

(1) الوسائل 28: 328 باب 3 من أبواب حد المرتد،

ح 5.

(2) الوسائل 28: 327 باب 3 من أبواب حد المرتد، ح 1.

(3) الخلاف 5: 504، مسألة (6).

محاضرات في المواريث، ص: 185

استتابة.

و هذه الدعوى لا يمكن تصديقها من الشيخ قدّس سرّه، و ذلك لأن الشيخ سلم بأنّه يقتل في المرة الثالثة، بل الشيخ نفسه نسب ذلك إلى الأصحاب في غير هذا المقام أنّه يقتل في المرة الثالثة.

و على كلّ حال لا دليل على أنّه يقتل في المرة الرابعة.

و أمّا في المرة الثالثة: فقد ذهب جماعة إلى أنّه يقتل فيها، و ذلك لما ورد من أن أصحاب الكبائر يقتلون في المرة الثالثة إذا أجري عليهم الحدّ في المرتين الأوليتين «1»، فلو فرضنا أن رجلا ارتكب كبيرة فيها حد، فأجري عليه الحدّ، ثمّ ارتكبه ثانية أيضا أجري عليه الحد، فإذا ارتكبه ثالثة يقتل، فأصحاب الكبائر إذا أجري عليهم الحدّ مرتين في المرة الثالثة يقتلون.

إلّا أن الاستدلال بهذه الصحيحة لا يتم في المقام، إذ المفروض أنّه لم يجر عليه أي حد، حدّه القتل و لم يقتل، موضوع الصحيحة ما إذا أجري الحدّ مرتين ففي المرة الثالثة لا يجري الحدّ بل يقتل، و محل كلامنا عدم جريان الحدّ أوّلا و ثانيا لأنّه تاب و لم يقتل، فليس هنا أي دليل على وجوب القتل في المرة الثالثة أو المرة الرابعة لأنّ كلّ ذلك لم يحصل.

بل الظاهر أن الحكم جار و هو الاستتابة و لو فرضنا أنّه استتابه في المرة الخامسة و ما بعدها لا يقتل.

يبقى الكلام في روايتين ربّما يتمسك بهما في وجوب القتل في المرة الثالثة:

إحدى الروايتين: عن جميل «2» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه يستتاب فإذا تاب يرفع

______________________________

(1) الوسائل 28: 19 باب 5 من

أبواب مقدّمات الحدود و أحكامها العامّة، ح 1.

(2) الكافي 7: 256، باب حدّ المرتد، ح 5.

محاضرات في المواريث، ص: 186

عنه القتل، و في المرة الثانية كذلك سئل جميل عن المرة الثالثة ما ذا يفعل به؟ فقال:

(إني لم أسمع فيه شي ء و لكن ورد في الزنا أنّه إذا أجري عليه الحدّ مرتين ففي الثالثة يقتل، فهذا أيضا كذلك) فقد قاس الارتداد بالزنا فكما أن الزاني يقتل في المرة الثالثة كذلك المرتد يقتل في المرة الثالثة، فيستدل بهذه الرواية على لزوم القتل في الثالثة بلا استتابة.

و لكن الرواية ضعيفة أوّلا فإن في سندها (علي بن حديد) و هو لا يعتمد على روايته، فهي ساقطة من جهة السند.

و ثانيا: إن ما ذكر في الرواية إنّما هو فتوى جميل قياسا للمقام بالزنا، فهو قد صرح بأنّه لم يسمع فيه شيئا، فقوله بالقتل في المرة الثالثة من جهة اجتهاده المستند إلى القياس.

فالرواية ساقطة سندا و دلالة و لا يمكن الاستدلال بها على شي ء.

الرواية الثانية: ما رواه جابر في رواية الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «1»، و في رواية الشيخ عن أبي جعفر عليه السّلام «2»: أن نصرانيا أسلم ثمّ بعد ذلك رجع إلى النصرانية، فشهد عليه شهود عند أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه ارتد و رجع إلى الكفر فسأله الإمام عليه السّلام قال: «ما تقول فيما يقول هؤلاء»، فقال: صدقوا و لكنّي أرجع إلى الإسلام، فقال عليه السّلام: «أما أنّك لو كذّبت الشهود لضربت عنقك باعتبار أن الشهود عدول و قد شهدوا بارتدادك فلا يسمع إنكارك فكنت أضرب عنقك، و لكن بما أنّك صدقت و رجعت فليس عليك شي ء، و لكن إذا رجعت إلى الكفر قتلتك و

لم

______________________________

(1) الكافي 7: 257، ح 9.

(2) التهذيب 10: 137، ح 6.

محاضرات في المواريث، ص: 187

اعف عنك» «1» هذا مضمون الرواية.

هذه الرواية أيضا غير قابلة للاستدلال بها على لزوم القتل في المرة الثالثة: أمّا أوّلا فلضعف السند و لا أقل من جهة (عمرو بن شمر) الذي هو في سند هذه الرواية و هو ضعيف، فالرواية غير قابلة للاستدلال بها.

و أمّا من جهة الدلالة فليس فيها دلالة على المرة الثالثة، بل الظاهر منها وجوب القتل في المرة الثانية قال عليه السّلام: «إذا رجعت قتلتك و لم اعف عنك»، فمعناه أنّه يقتل في المرة الثانية، مع العلم أنّه لا يقتل في المرة الثانية جزما.

على أن متن الرواية غير قابل للتصديق، فقوله عليه السّلام- لو صحت الرواية-: لو كذبت الشهود لضربت عنقك، فلنفرض أنّه كذب الشهود تكذيبه للشهود رجوع إلى الإسلام كتكذيب الزوج طلاق زوجته في العدّة الرجعية- على ما ذكر في محله- يكون إنكاره رجوعا، فإنكار هذا الرجل الرجوع إلى الكفر اعتراف منه بالإسلام فيكون توبة منه.

و لنفرض أنّه ليس بتوبة لما ذا يضرب عنقه؟! مرتد ملّي يستتاب فيأمره الإمام بالتوبة فإن لم يتب يضرب عنقه، و أمّا أنّه يضرب عنقه بلا استتابة هذا غير قابل للتصديق.

فالرواية ساقطة سندا و دلالة.

فالصحيح أنّه لا يقتل لا في المرة الثالثة و لا في الرابعة بل يستتاب إن تاب فهو و إلّا فيقتل في أي مرة كان.

هذا كلّه في المرتد الملّي و الفطري إذا كان رجلا.

______________________________

(1) الوسائل 28: 328 باب 3 من أبواب حد المرتد، ح 4.

محاضرات في المواريث، ص: 188

الكلام فيما إذا ارتدّت المرأة

أمّا إذا ارتدّت المرأة فلا تقتل بارتدادها و لو كان عن فطرة بلا خلاف بين الفقهاء.

و يدلنا

عليه عدّة من الروايات الصحيحة، فقد دلّت الصحاح على أنّها لا تقتل و لكنها تستتاب و تضرب في أوقات الصلاة، و تلبس خشن الثياب، و يضيّق عليها، و تستخدم، و تستر أي لا يكون لها حرية بل تكون مستورة إلى أن تتوب، و الحكم مستفاد من عدّة روايات صحيحة «1» و لا إشكال فيه أبدا.

و لكن بإزاء ذلك صحيحة أحمد بن قيس «2» ففي هذه الصحيحة إن وليدة أسلمت فولدت لسيدها ولدا، ثمّ بعد ذلك مات سيدها، و تزوجت من نصراني و تنصّرت فولدت من النصراني ولدين و هي حامل بالثالث، ففي هذه الصحيحة ذكر أن أمير المؤمنين عليه السّلام قضى بأن الوليدين الذين ولدتهما بعد التنصّر هما عبدان للولد الأوّل، و هي تستتاب فإن تابت، و إلّا تنتظر إلى أن تضع ثمّ تقتل).

هذه الرواية رواية شاذة و لا عامل بها و لا يمكن العمل بها إذا لم يظهر أي وجه لأن يكون الولدان عبدين للولد الأوّل، ما هو الوجه في عبوديتهما للولد الأوّل؟!

______________________________

(1) راجع الوسائل 28: 330 باب 4 من أبواب حدّ المرتد.

(2) الوسائل 26: 26 باب 6 من أبواب موانع الإرث، ح 2.

محاضرات في المواريث، ص: 189

ليس هو بملك للأمّ و ليس له أي علاقة بالولدين.

ثمّ إن المفروض أن الارتداد هنا ارتداد ملّي، فالمرأة كانت نصرانية أوّلا، ثمّ بعد ذلك أسلمت فولدت، ثمّ تنصّرت فولدت ولدين و هي حامل بالثالث، و المرتد الملي حتّى إذا كان رجلا لا يقتل فكيف تقتل المرأة المرتدة عن ملّة لا عن فطرة؟! فالرواية شاذة لا بدّ من رد علمها إلى أهله.

و قد وجهها الشيخ قدّس سرّه بتوجيه بعيد جدا لا موجب له بل لا بدّ من

طرحها ورد علمها إلى أهله.

فالحكم مما لا إشكال فيه و لا خلاف من أنّها تستتاب و يضيّق عليها، و تحبس و تضرب في أوقات الصلاة و تلبس خشن الثياب على ما دلّت عليه الروايات الصحيحة.

ثمّ إنّها تبين من زوجها بارتدادها، و ذلك لأن زوجة المسلم لا تكون كافرة لقوله سبحانه وَ لٰا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوٰافِرِ «1» الكافرة لا تكون زوجة للمسلم، و بما أنّها بارتدادها تكون كافرة تبين عن زوجها المسلم.

نعم ثبت بدليل خارجي جواز تزويج المسلم بكتابية متعة بلا إشكال، و دواما على قول- و هو الصحيح يجوز التزويج من الكتابية- كما أن الزوجين إذا كانا كافرين و أسلم الزوج تبقى الزوجية و لا تزول بإسلام الزوج، أيضا ثبت هذا بالدليل. و أمّا غير ذلك فيحكم ببطلان الزوجية لأن الكافرة لا تكون زوجة للمسلم، لأنّ الإمساك بعصم الكوافر ممنوع. و هذا أيضا مما لا إشكال فيه.

و لا بدّ لها من العدّة، و ذلك لما دل من الإطلاقات على أن التقاء الختانين

______________________________

(1) الممتحنة: 10.

محاضرات في المواريث، ص: 190

يوجب الغسل، و يوجب العدّة و يوجب الحد، فإذا فرضنا أنّها كانت مدخولا بها لا بدّ لها من العدّة، و العدّة عدّة الطلاق كما هو المنصرف إليه من هذه اللفظة، عدة الوفات تحتاج إلى قرينة، كما كانت القرينة موجودة فيما إذا ارتد الزوج و كان ارتداده عن فطرة، قلنا: إن زوجته تعتد عدة الوفاة ثبت هذا بدليل، و إلّا فالعدة ظاهرة في عدة الطلاق كما في وطي الشبهة و غير وطي الشبهة، في أي مورد ثبتت العدة تنصرف إلى عدة الطلاق.

إذا يختلف الحال بين المرأة و بين الرجل.

كما أن المرأة إذا ارتدت عن فطرة لا تنتقل

أموالها إلى ورثتها، بل لا بدّ من الموت و ما لم تمت أموالها باقية على حالها و هي تستتاب، فإذا تابت يرفع اليد عنها، و إلّا فيجري ما تقدّم. بخلاف الرجل فإنّه لا يستتاب و لا تقبل منه التوبة على ما في صحيحة محمّد بن مسلم إنّما تقبل التوبة من المرأة لا من الرجل.

اعتبار القصد في الارتداد:

ثمّ إن الارتداد و هو إظهار الكفر بعد الإسلام لا بدّ و أن يكون عن قصد، فلو سبق لسانه بالكفر مثلا لا يحكم بارتداده جزما، لأنّه غير مقصود، فلا يحكم بكفره من جهة سبق اللسان.

كما أنّه يعتبر فيه العقل فالمجنون رفع القلم عنه لا يؤخذ بشي ء من أقواله و أفعاله، فلو فرضنا أن مجنونا أظهر الكفر لا يحكم بارتداده بل هو باق على الإسلام.

و كذلك الصبي فهو أيضا رفع القلم عنه و لا يؤخذ بشي ء من أقواله و أفعاله،

محاضرات في المواريث، ص: 191

فلو أظهر الكفر لا يؤخذ بإقراره و لا يحكم بكفره بل تجري عليه أحكام الإسلام كما كان سابقا إلى أن يبلغ فيظهر الكفر بعد بلوغه، فالصبي أيضا حاله حال المجنون.

و كذلك المكره لو فرضنا أنّه أجبر على أن يتلفّظ بما هو موجب للكفر من إنكار الصانع أو النبوّة أو المعاد أو ما يرجع إلى شي ء من ذلك، فأظهر الكفر مكرها أو خوفا من القتل أو شبه القتل أيضا لا يحكم بكفره قال تعالى إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ «1» فهذا لا بأس به بمقتضى الآية المباركة و بمقتضى ما دل على رفع ما استكرهوا عليه «2»، فلا يحكم بارتداده.

حكم من أظهر الكفر ثمّ ادّعى الإكراه:

بقي الكلام فيما إذا أظهر الكفر و ادعى أنّه كان مكرها على ذلك، فهل تسمع منه هذه الدعوى أو لا تسمع ما لم يثبت بقرينة أنّه كان مكرها؟ فلو لم تكن هناك قرينة دالة على الإكراه يحكم بأن الفعل صادر عن إرادة و عن اختيار فيحكم بكفره؟

فيه كلام:

نسب إلى المشهور أنّه يسقط عنه الحد إذا ادعى الإكراه، لأن الحدود تدرأ بالشبهات، و هذا من موارد الشبهة لا يعلم أن هذا الكلام

صدر عنه عن إكراه أم أنّه صدر عن اختيار فهو من موارد الشبهة، و الحدود تدرأ بالشبهات فلا يقتل.

و لكن الصحيح أنّه لا أثر للدعوى ما لم تثبت بقرينة، و الوجه في ذلك أن ما ذكر من أن الحدود تدرأ بالشبهات ليس لهذه الرواية أصل، و إنّما هي مرسلة رواها

______________________________

(1) النحل: 19.

(2) راجع أصول الكافي 2: 462 باب ما رفع عن الامة.

محاضرات في المواريث، ص: 192

الشيخ الصدوق قدّس سرّه و لم تثبت بطريق معتبر.

و لو فرضنا أنّها كانت معتبرة لا يراد بالشبهات الاحتمال الواقعي، و ذلك لأن الاحتمال و الشبهة بالنسبة إلى الواقع محتملة في أكثر الحدود من الزنا و شرب الخمر و السرقة و غير ذلك احتمال أنّه كان معذورا موجود في الخارج، إذا رأينا أحدا يشرب الخمر مثلا أو يزني أو غير ذلك مما يجب فيه الحد فاحتملنا أنه معذور في الواقع، أ يكتفي بذلك و لا يحد؟ ففي أكثر موارد الحدود نجد أن الشبهة الواقعية موجودة.

فالمراد بالشبهة المشتبه واقعا و ظاهرا، و في مقامنا الشبهة الظاهرية غير موجودة، بل يحمل الفعل على أنّه اختياري، لأن الإكراه أمر حادث و الأصل عدمه، صدر منه الفعل بإرادته و نشك في الإكراه، الأصل أنّه غير مكره و يشمله ما دل على الارتداد بالكفر، فلا شبهة في المقام، و إنّما الشبهة تتحقق فيما إذا كان مشتبها واقعا و ظاهرا، ففي مثل ذلك لا يحكم بالحد فيدرأ الحد بالشبهة على فرض أن تكون هذه الرواية معتبرة.

محاضرات في المواريث، ص: 193

المانع الثاني القتل

اشارة

لا شك و لا ريب و لا خلاف في أن القتل- في الجملة- مانع من الإرث.

و إنّما الكلام في بعض خصوصياته:

إذا فرضنا أن أحدا

قتل مورّثه عن ظلم و عدوان و تعدّ لا شك و لا ريب في أنّه لا يرث لبعض الإطلاقات كقوله عليه السّلام: «القاتل لا يرث» «1» و هذا قاتل لمورثه فهو لا يرث.

و للتصريح بذلك في جملة من الروايات: منها صحيحة علي بن الجهم ففيها أن رجلا قتل امّه، قال عليه السّلام: «يقتل و لا يرث منها و لا أظن أن قتله بها كفارة لذنبه» «2» هذه الصحيحة موردها القتل ظلما و عدوانا ففي مثل ذلك لا يرث.

و تفصيل الكلام في المقام هو:

أنّ الفعل الواقع على المقتول الذي يترتب عليه القتل: قد لا يكون هذا الفعل مقصودا أصلا، و لكنه تحقق في الخارج اتفاقا بغير قصد.

و قد يفرض أنّ ذات الفعل مقصود، و في مثل ذلك:

______________________________

(1) الوسائل 26: 30، باب 7 من أبواب موانع الإرث ح 1 و 5 و 6.

(2) الوسائل 26: 30، باب 7 من أبواب موانع الإرث ح 2 إلّا أن الراوي ابن رئاب لا علي بن الجهم و لم يذكر للرواية سند آخر.

محاضرات في المواريث، ص: 194

إمّا أن يكون القتل أيضا مقصودا.

أو أن الفعل مما يترتب عليه القتل عادة و لو فرضنا أنّه لم يكن قاصدا للقتل.

أو لا يكون كذلك يعني لم يقصد به القتل، و ليس الفعل مما يترتب عليه القتل عادة، و لكن اتفق أنّه قتل به.

فهذه أقسام ثلاثة:

أمّا القسم الأوّل: و هو ما إذا لم يكن الفعل الواقع على المقتول مقصودا و لكن وقع عليه اتفاقا- و هو المسمى عندهم بالخطإ المحض- كما إذا رمى طائرا بحجر فوقع على رأس إنسان فقتله و مات، فهذا ليس مقصودا للرامي، بل كان مقصوده رمي الطائر.

ففي مثل ذلك تترتب الدية على العاقلة- على ما

هو المشهور بينهم.

و أمّا القسم الثاني: و هو ما إذا كان القتل مقصودا أو أن الفعل مما يترتب عليه القتل عادة- و إن لم يكن قاصدا للقتل- كما إذا ألقاه من شاهق أو ضربه بسيف على رأسه و أمثال ذلك مما يكون ترتب القتل عليه أمرا عاديا.

فهذا داخل في القتل العمدي و حكمه القصاص ابتداء و يمكن التراضي مع ولي المقتول بالدية أو بما هو أقل من الدية أو أكثر حسب التراضي بينهما.

و أمّا القسم الثالث: و هو ما إذا كان الفعل بذاته مقصودا و لكن ترتب القتل عليه غير مقصود، و ليس الفعل مما يترتب عليه القتل عادة، كما إذا ضربه بعصى مثلا بقصد التأديب و الضرب بالعصى لا يوجب القتل عادة، و لكن اتفق موته بهذه الضربة. فهذا يسمّى عندهم بالخطإ الشبيه بالعمد، و في مثل ذلك تكون الدية على نفس القاتل دون العاقلة، فيؤدي الدية من ماله.

محاضرات في المواريث، ص: 195

و أمّا القصاص فلا يثبت لأنّه لم يكن قاصدا للقتل، و لم يكن الفعل مما يترتب عليه القتل عادة.

أمّا القسم الأوّل: و هو الخطأ المحض فهو لا يمنع من الإرث بل القاتل يرث كغيره من الورثة، و المخالف في ذلك شاذ، و ما دل على أن القاتل لا يرث و إن كان قتله خطأ روايتان ضعيفتان «1» لا يمكن الاستدلال بهما على شي ء، فالقاتل خطأ كغير القاتل من الورثة.

أمّا القسم الثاني: و هو القاتل العمدي فهو لا يرث على ما تقدّم.

و أمّا القسم الثالث: و هو القسم الثاني من الخطأ: و هو ما يكون شبيها بالعمد فهو محل خلاف و كلام بينهم:

فذهب جماعة إلى أنّه مانع من الإرث كالعمد.

و ذهب آخرون

إلى أنّه لا يمنع، بل القاتل يرث كما في الخطأ المحض، و هذا هو الصحيح:

فإن تقسيم الخطأ إلى قسمين إنّما هو باعتبار الدية و إلّا فلا واسطة بين المخطئ و المتعمّد، فالخطأ شامل لكليهما مجرد تسميته بشبيه العمد لا يوجب جريان حكم العمد عليه، فقوله عليه السّلام: «إن كان خطأ فهو يرثه» «2» أعم من أن يكون الخطأ من القسم الأوّل أو من القسم الثاني، فالخطأ في مقابل العمد. إمّا أن يكون القاتل قاصدا للقتل أو لم يكن قاصدا فإذا لم يكن قاصدا للقتل فهو مخطئ لا محالة، و المشهور بينهم أن القاتل خطأ يرث. فمجرد أنّه تجب عليه الدية و أنّه هو المكلف

______________________________

(1) الوسائل 26: 32 و ما بعدها باب 9 من أبواب موانع الإرث، ح 3 و 4.

(2) الوسائل 26: 31 و ما بعدها باب 9 من أبواب موانع الإرث، ح 1 و 2.

محاضرات في المواريث، ص: 196

بدفع الدية في مقابل الخطأ المحض لا يوجب هذا تقييدا في أحكام الإرث.

و أمّا الروايتان فحملهما على الخطأ الشبيه بالعمد حمل بغير موجب على أنّهما ضعيفتان و غير قابلتين للاستدلال بهما.

إذن ما ذهب إليه المحققون من عدم الفرق بين أقسام الخطأ هذا هو الصحيح.

يبقى الكلام فيما إذا كان القتل عمدا و لكن لم يكن بتعدّ و ظلم، بل كان قتلا بحق كما إذا كان القتل من جهة الدفاع عن النفس، أو عن العرض، أو عن المال المحترم، فقتل أباه أو أخاه، أو عمه أو ابن عمه، أو غير هؤلاء بحيث لو لا القتل لكان وارثا له، و لكن كان قتله قتلا بحق، فهل يكون هذا وارثا؟ أو أنّه لا فرق في القتل العمدي بين

الحقّ و غيره؟

المشهور و المعروف بل المتسالم عليه بينهم اختصاص الحكم بالقتل ظلما، و أمّا إذا كان القتل بحقّ و لا سيما إذا كان واجبا كالدفاع عن النفس باعتبار أنّه واجب، لا مجرد الجواز كما في القصاص، أو فرضنا أن هناك حربا بين أهل البغي و أهل الإيمان، فالمورّث في الطائفة الباغية و الوارث في طائفة أهل الإيمان فقتل مورثه فهو قتل بحق.

المعروف و المشهور بل المتسالم عليه بينهم، و الظاهر أنه لا خلاف في المسألة أن المنع عن الإرث مختص بالقتل ظلما و لا يعمّ القتل بحق.

و هذا هو الصحيح، فإنّ المقابلة في الروايات: إن كان عمدا لا يرث، و إن كان خطأ يرث ظاهر في أن الفرق هو العذر و عدم العذر من كان معذورا و كان خطأ فلا يمنع و من كان غير معذور و كان متعمدا و قاصدا فهو لا يرث، فإذا كان الحكم ثابتا مع أن المبغوضية الواقعية موجودة في قتل الخطأ غايته أن الحكم غير منجّز في حقّه

محاضرات في المواريث، ص: 197

و مرفوع من جهة الخطأ ففيما إذا لم تكن المبغوضية ثابتة في الواقع، بل كان الفعل محبوبا و مرغوبا، بل واجبا في بعض الأوقات لا يكون شاملا للحكم بعدم الإرث بطريق أولى.

و بمناسبة الحكم و الموضوع بحسب الفهم العرفي أيضا يقتضى ذلك، فإنّه يقال من جهة عدم تعجيل الوارث في أخذ الإرث كما إذا كان فقيرا محتاجا إلى المال و مورّثه غني يقتله و يستعجل في أخذ إرثه، فجعل منع القتل من الإرث مانعا عن ارتكاب هذه الجريمة. فالمناسبة أيضا تقتضي ذلك.

نعم صحيحة أبي عبيدة «1» التي ذكرناها الآن و صحيحة الحلبي «2» كان موردهما القتل

ظلما، و الظاهر هو اتحاد الروايات في الحكم و إلّا لم يكن وجه للتقييد بذلك، بل كان الحكم ثابتا لمطلق القتل.

إذا ما ذكره المشهور من اختصاص الحكم بالقتل العدواني هذا هو الصحيح.

و قد وردت رواية رواها الشيخ الصدوق و الشيخ الطوسي قدّس سرّه و لكن سندها ضعيف «3»، في تلك الرواية علل عدم الإرث (لأنه ليس بحقّ) أو عكسه (يرث لأنّه بحقّ) و لكن الرواية لضعفها لا يمكن الاستدلال بها فتكون مؤيّدة.

ثمّ إنّه لا فرق في القتل العمدي بين أن يكون القاتل واحدا و المقتول متعددا، أو العكس، فلو فرضنا أن شخصا واحدا قتل اثنين و هو وارث لهما معا كما لو فرضنا أخوة ليس لهم وارث آخر من أب أو أمّ و كلّ منهم وارث للآخر، فقتل أحد

______________________________

(1) الوسائل 26: 30 باب 7 من أبواب موانع الإرث، ح 2.

(2) الوسائل 26: 30 باب 7 من أبواب موانع الإرث، ح 4.

(3) الوسائل 26: 41 باب 13 من أبواب موانع الإرث، ح 1.

محاضرات في المواريث، ص: 198

الأخوة اثنين من أخوته فهو لا يرثهما فلا يفرّق بين الواحد و الأكثر فكما أن قاتل الواحد لا يرثه فإن قاتل الأثنين لا يرثهما و هكذا. و هذا ظاهر.

كما أنّه لو فرضنا أن اثنين قتلا واحدا، ولدين اشتركا في قتل أبيهما، أيضا كلّ منهما قاتل فيمنع من إرث المقتول لأن القتل حقيقي، و لا فرق في منع القاتل من الإرث بين أن يكون قاتلا بالاشتراك أو أن يكون قاتلا بالانفراد فكما يجوز الاقتصاص منهما معا غاية الأمر لا بدّ لولي الدم من أن يدفع نصف الدية إلى ورثتهم- و هذا حكم آخر- فإذا اشتركا في قتل واحد و

كان كلّ منهما قاتلا له لا يرث هذا و لا ذاك، لأنّ كلا منهما قاتل، فلا فرق بين أن يكون القاتل واحدا و المقتول متعددا، و بين أن يكون القاتل متعددا و المقتول واحدا.

ففي كلّ مورد صدق القتل حقيقة يمنع القاتل من الإرث بمقتضى إطلاق الأدلّة.

يبقى الكلام في دية الخطأ المحض:

قلنا إن دية الخطأ المحض على العاقلة، فهل المقصود من ذلك أنّها ثابتة في ذمتهم؟

لا يراد بذلك أن الدية ثابتة في ذمتهم فليسوا مدينين بالدية بل هو تكليف محض، و الدية على الجاني نفسه فهي ثابتة في ذمته- كما بينا ذلك في بحث الديات «1»- فلا فرق هنا بين الشبيه بالعمد و بين الخطأ المحض في أن الدية في كلا الموردين إنّما هي على الجاني و في ذمته. غايته أنّها في الخطأ المحض تحمل على العاقلة يجب عليهم تفريغ ذمة القاتل من هذا الدين، فهي بالنسبة إلى العاقلة تكليف محض بينما

______________________________

(1) راجع مباني تكملة المنهاج 2: 554 و ما بعدها.

محاضرات في المواريث، ص: 199

هي بالنسبة إلى الجاني وضع كما تدل عليه الآية المباركة وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلىٰ أَهْلِهِ «1» فكما أن الكفارة واجبة على نفس الجاني كذلك الدية مترتبة عليه و في ذمته، و قد دلت على ذلك عدّة من الروايات تعرضنا لها في كتاب الديات و هي واضحة الدلالة بل بعضها صريحة في ذلك و هو أن الدية على نفس الجاني:

سئل الإمام عليه السّلام عن رجل قتل في الأشهر الحرم خطأ فقال عليه السّلام: «عليه الدية، و عليه صوم شهرين متتابعين من أشهر الحرم» «2» و غير ذلك من الروايات المعتبرة الدالة على أن الدية على نفس الجاني

و إن كان يجب على العاقلة تفريغ ذمته من هذا الدين، فهذا مجرد تكليف.

فلو فرضنا أنّه لا عاقلة له، أو أن عاقلته فقراء لا يتمكنون من دفع شي ء، أو أنّهم لا يدفعون عصيانا أو غير ذلك، فالقاتل يجب عليه دفع الدية من ماله و لا يسقط عنه وجوب الدية، و تمام الكلام في محله «3».

______________________________

(1) النساء: 92.

(2) الوسائل 29: 204 باب 3 من أبواب ديانت النفس، ح 4.

(3) راجع مباني تكملة المنهاج 2: 554، و ما بعدها مسألة 420.

محاضرات في المواريث، ص: 200

القاتل خطأ هل يرث من الدية أم لا؟

اشارة

كان كلامنا في مانعية القتل عن الإرث، و قلنا إن القاتل لا يرث المقتول إذا كان القتل عمدا و ظلما، و أمّا إذا كان القتل خطأ فهو لا يمنع من الإرث سواء كان خطأ محضا أم كان شبيه عمد، فالقاتل يرث المقتول مطلقا.

إلّا أنّه وقع الكلام في أن عدم المنع من إرث القاتل خطأ هل يختص بما تركه الميت؟ أم أنّه يشمل الدية أيضا فهو كما يرث من التركة يرث من الدية أيضا؟

فيه كلام بين الأعلام:

اختار الشيخ المفيد قدّس سرّه «1» أن القاتل خطأ و إن كان يرث إلّا أنّه لا يرث من الدية.

و حسّنه المحقّق قدّس سرّه «2» إلّا أنّه اختار أنّه يرث و قال: هو أشبه. و قوّى صاحب الجواهر قدّس سرّه «3» قول المفيد و أنّه لا يرث من الدية.

و على كلّ حال فقد ذهب إلى كلّ من القولين جمع من الفقهاء.

و ما ذكره المحقّق مبني على أن الروايات الواردة في المقام متعارضة باعتبار أن

______________________________

(1) راجع الجواهر 39: 37- 38.

(2) شرائع الإسلام 4: 8.

(3) راجع الجواهر 39: 38.

محاضرات في المواريث، ص: 201

جملة منها دلت على أن

القاتل إذا كان قتله خطأ يرث، «1»، و هذا بإطلاقه شامل للدية و غير الدية.

كما أن ما دل على أن القاتل لا يرث من الدية من الروايات المعتبرة «2» يشمل بإطلاقه القتل العمدي و القتل الخطئي، فبينهما عموم من وجه بالنسبة إلى الدية:

مقتضى الإطلاق في الأوّل أنّه يرث، و مقتضى الإطلاق في الثاني أنه لا يرث.

فإذا تعارضت الروايات بعضها دل على الإرث، و البعض الآخر دل على عدم الإرث فالمرجع هو إطلاق الآية الكريمة و أن الابن أو الأب أو الأخ أو غير ذلك من الأرحام يرث وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* فيكون المرجع هو إطلاق الكتاب أو عمومه.

و لذلك قال المحقّق قدّس سرّه «3»: إن القول الأوّل- يعني القول بأن القاتل خطأ يرث حتّى من الدية- هو الأشبه.

إلّا أنّ الظاهر أن ما ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه و غيره من المحققين من عدم الإرث من الدية هو الصحيح.

و الوجه في ذلك: أنّا لو كنا نحن و لم يكن شي ء من الروايات مقتضاه أن الدية لا تكون إرثا للميت فإن الآية بل الآيات المباركة إنّما هي واردة فيما تركه الميت، فالإرث إنّما يكون فيما تركه الميت: إن ترك شيئا فللوالدين كذا و للبنت كذا و غيرهم من الأولاد .. و هكذا. الإرث إنّما يكون بالنسبة إلى ما تركه.

______________________________

(1) راجع الوسائل 26: 33 باب 9 من أبواب موانع الإرث.

(2) راجع الوسائل 26: 38 و ما بعدها باب 11 و 12 من أبواب موانع الإرث.

(3) شرايع الإسلام 4: 8.

محاضرات في المواريث، ص: 202

و ليست الدية مما تركه الميت، بل الدية إنّما تجب بعد تحقّق القتل و موت المقتول، فلم يكن الميت مالكا

للدية حال حياته لتكون داخلة في ما تركه، و إنّما التزمنا بأن الدية حكمها حكم مال الميت يقضى منها ديونه و يعمل بوصيّته و الباقي يكون للورثة إنّما التزمنا بذلك للروايات الواردة في المقام «1»، و إلّا لو كنا نحن و الآية المباركة لا نحكم بأن الدية تكون في ملك الميت و تنتقل منه إلى ورثته، بل ابتداء تكون ملكا للورثة من دون توسيط الميت من جهة ظاهر الآية المباركة و الروايات وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلىٰ أَهْلِهِ «2».

فالدية من الابتداء تعطى إلى الورثة لا أن تنتقل إليهم من الميت، و إنّما التزمنا بذلك من جهة الروايات و أن ديون الميت تعطى من الدية و كذلك وصاياه تخرج من الدية و الباقي يكون للورثة.

إذا لا يمكن بعد الالتزام بتعارض الروايات أن يقال إن المرجع هو الآية المباركة، بل الصحيح أن يقال: إن هاتين الطائفتين اللتين أشرنا إليهما دلت طائفة على أن القاتل خطأ يرث و مقتضى إطلاقها أنّه يرث من الدية و من أصل المال بمقتضى الروايات الدالة على أن الدية في حكم التركة، و الآية قاصرة الشمول، فلو كنا نحن و هذه الطائفة فقط لالتزمنا بأن القاتل خطأ يرث حتّى من الدية.

و مقتضى إطلاق الطائفة الثانية- و هي أن القاتل لا يرث من الدية- أن القاتل خطأ أيضا لا يرث من الدية، فهذه الروايات مطلقة بالنسبة إلى القاتل العمدي و الخطئي.

______________________________

(1) راجع الوسائل 26: 35 و ما بعدها باب 10 من أبواب موانع الإرث.

(2) النساء: 92.

محاضرات في المواريث، ص: 203

فبالنسبة إلى القتل الخطئي تكون الطائفتان متعارضتين بالعموم من وجه، فيكون هذا المورد- يعني الدية في القتل

الخطئي- مشمولا لكلتا الطائفتين: مقتضى الطائفة الاولى أنّه يرث، و مقتضى الطائفة الثانية أنه لا يرث.

إلّا أنّ الترجيح مع الطائفة الثانية، و ذلك لأن التقييد بالقتل العمدي و إن كان أمرا ممكنا إلّا أنّه بعيد جدا باعتبار أن الموضوع هو الدية فيعلم أنّ الدية لها خصوصية، و إلّا فما معنى قوله عليه السّلام: «القاتل لا يرث من الدية» «1» فإذا كان القتل عمديا فهو كما لا يرث من الدية لا يرث من أصل المال أيضا.

فالتقييد بالدية يظهر أن فيه خصوصية كأن إرثه من أصل المال مفروغ عنه و إنّما منع من الدية خاصة، فبعيد جدا أن تقيد هذه الروايات بالقتل العمدي، لأنّه ينافي التقييد بالدية في كلام الإمام عليه السّلام و يؤخذ بالإطلاق و أن القاتل مطلقا عمدا كان أو خطأ لا يرث من الدية فتقيّد الطائفة الاولى بأنّه يرث يعني يرث من أصل المال، فالمعارضة و إن كانت بالعموم من وجه إلّا أنّ هنا مرجّحا لتقييد الطائفة الثانية بالطائفة الاولى- يعني يؤخذ بإطلاق الطائفة الثانية و يقيّد به إطلاق الطائفة الاولى. هذه ناحية.

و من ناحية ثانية أنّه لا يبعد أن يقال إنّه على فرض تعارض الطائفتين و عدم إمكان تقديم إحداهما على الاخرى فالمرجع هو إطلاق قوله تعالى وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلىٰ أَهْلِهِ مقتضى هذه الآية المباركة أن كلّ من يكون قاتلا خطأ فيجب

______________________________

(1) لو كانت هذه العبارة موجودة لتم ما ذكره قدّس سرّه من التوجيه إلّا أنّ الموجود في عدّة من النصوص هكذا:

«المرأة ترث من دية زوجها و هو يرث من ديتها ما لم يقتل أحدهما الآخر» فإرث الدية في هذه الروايات محصور فيما إذا كان القاتل غير الزوجين و القتل مطلق

يشمل العمد و الخطأ فلا يتم التوجيه الذي ذكره قدّس سرّه و للتأكد راجع الوسائل 26: 32 باب 8 من أبواب موانع الإرث.

محاضرات في المواريث، ص: 204

عليه أمران: الكفارة تحرير رقبة مؤمنة، و دية مسلّمة إلى أهله، و قد ذكرنا قبل ذلك أن الدية ثابتة في ذمة نفس القاتل- و إن كان في فرض الخطأ المحض يجب تفريغ ذمته على العاقلة يعني أن الحكم بالنسبة إلى العاقلة تكليف محض، و الوضع إنّما هو على القاتل نفسه- فإذا قلنا بأن القاتل يرث حتّى من الدية لا بدّ من تقييد الآية المباركة و تخصيصها بغير القتل الخطئي، لأنّه لا معنى لدفع الدية إذا كان هو الوارث. فلنفرض أن الأب قتل ولده خطأ أو العكس الولد قتل أباه خطأ و ليس هنا أي وارث غيره، كيف يمكن أن يقال إنّه تجب عليه الدية وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلىٰ أَهْلِهِ فيكون المعنى أنّه يسلّم الدية إلى نفسه، ليس لهذا معنى صحيح.

و كذلك إذا كان معه وارث آخر بالنسبة إلى بعض الدية أيضا الكلام هو الكلام.

فلو فرضنا أن للقاتل أخا فمعناه أنّه يجب عليه نصف الدية لأنّ النصف الآخر هو يرثه، و هذا تخصيص في الآية المباركة ظاهر الآية المباركة أن الدية يجب تسليمها إلى أهله بالنسبة إلى أي قاتل كان سواء كان منحصرا أم لم يكن، و سواء كان وارثا أم لم يكن، تقييد القاتل بغير الوارث و تخصيص الحكم به تقييد بلا موجب، و على فرض المعارضة المرجع عمومات وجوب الدية حتّى إذا كان القاتل وارثا، بل كان وارثا منحصرا.

فحينئذ ما قواه صاحب الجواهر قدّس سرّه و غيره من المحققين من أنّه لا يرث من الدية و إن

كان وارثا من أصل المال هو الصحيح.

خلاصة البحث:

قلنا إن القاتل إذا كان متعمّدا فهو لا يرث إذا كان قتله ظلما.

محاضرات في المواريث، ص: 205

و أمّا إذا كان قتله خطأ بقسميه: المحض و الشبيه بالعمد فلا مانع من إرثه مما تركه الميت، و أمّا بالنسبة إلى الدية فقد تقدّم الكلام فيه و أن الظاهر أنّه لا يرث كما اختاره الشيخ المفيد قدّس سرّه و جماعة من المحققين.

هذا بالنسبة إلى نفس القاتل فيفرض كالعدم.

و أمّا إذا فرضنا أن في طبقة القاتل من يرث الميت أو في طبقة متأخرة عنه كما إذا فرضنا أخوين أحدهما قتل والده، أو فرضنا أن للميت ولدا و ولد ولد من غير هذا القاتل، طبعا القتل يمنع من إرث القاتل من الدية فهو بحكم العدم، ففي الصورة الاولى ينتقل المال إلى أخيه، و في الصورة الثانية ينتقل إلى ابن أخيه.

و هذا واضح لا يحتاج إلى دليل خاص مقتضى أن الإرث للأقرب و المفروض أن القاتل قد سقط و فرض كالعدم فغيره سواء كان في طبقته أو في طبقة متأخرة عنه يكون هو الوارث.

يبقى الكلام في ما إذا كانت الطبقة المتأخرة تنتسب إلى المقتول عن طريق القاتل، كما إذا فرضنا أنه ولد القاتل، فالقتل منع أباه من الإرث فهل يسري هذا المنع إلى الابن أيضا باعتبار أنّ إرثه إنّما هو من جهة تقرّبه بهذا القاتل، و فرضنا أن القاتل سقط فهل يكون المتقرّب به أيضا ساقطا أم لا؟

لا ينبغي الإشكال في عدم السقوط أيضا لما تقدم من إطلاقات أدلّة الإرث و أن الأقرب إلى الميت هو الوارث، خرج القاتل بالدليل و أنّه ممنوع من الإرث، و أمّا بالنسبة إلى من يتقرب به فلم

يدل دليل على الحجب فيكون وارثا. هذا.

مضافا إلى صحيحتين في هذا المقام قد دلتا على هذا الحكم ففي إحداهما أن

محاضرات في المواريث، ص: 206

الرجل إذا قتل والده فهو لا يرثه و لكن إذا كان له ابن فهو يرث جدّه «1».

و في الاخرى لا يرث الرجل إذا قتل ولده أو والده و لكن يكون الميراث لورثة القاتل «2».

فابن الابن يرث جدّه في المقام مع وجود أبيه، و الحكم مما لا إشكال فيه، و لو فرضنا أن الصحيحة لم تكن أيضا كان الأمر كذلك بمقتضى إطلاقات أدلّة الإرث.

هذا كله بالنسبة إلى التركة.

و أمّا بالنسبة إلى الدية التي تكلّمنا فيها في الجملة:

أمّا في القتل العمدي فالدية غير ثابتة، و الثابت هو القصاص و إنّما ينتقل الحكم إلى الدية لوجود ما يقتضي ذلك: كما إذا رضي ولي المقتول بأن يتنازل عن حقّه في القصاص و يرضى بالدية فيأخذ من القاتل مقدار الدية أو أقل أو أكثر حسب اتفاقهما و تراضيهما فليس له مقدّر محدود.

و قد ينتقل إلى الدية لعدم التمكن من القصاص، أو لعدم ثبوت القصاص من الأوّل، كما إذا قتل الوالد ولده فإنّه لا يقاد الوالد بولده، و إنّما يجب عليه دفع الدية، فالأب مستثنى من دليل القصاص.

و كذلك إذا قتل المسلم ذمّيا لا يقتل المسلم بالكافر أيضا فينتقل الأمر إلى الدية.

أو فرضنا أنّه لا يتمكن من القصاص لفرار القاتل و لم يمكن الاقتصاص منه، فتؤخذ الدية من أمواله.

______________________________

(1) الوسائل 26: 40 باب 12 من أبواب موانع الإرث، ح 1.

(2) الوسائل 26: 40 باب 12 من أبواب موانع الإرث، ح 2.

محاضرات في المواريث، ص: 207

فالثابت أوّلا و بالأصالة هو القصاص، و إنّما ينتقل إلى الدية

للعوارض التي ذكرناها.

و أمّا بالنسبة إلى القتل الخطئي بكلا قسميه: فالثابت من الأوّل هو الدية، قال تعالى وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلىٰ أَهْلِهِ و كذلك الروايات دلّت على ذلك، فتجب الدية على نفس القاتل في كليهما إلّا أن الفرق بينهما في أنّه في الخطأ المحض يجب على العاقلة تفريغ ذمة القاتل، فلو فرضنا أنّه لا عاقلة له، أو فرضنا أنّهم لا يتمكنون من دفع الدية لفقرهم، أو أنّهم لا يدفعوها عصيانا ففي جميع ذلك تكون ثابتة في ذمة القاتل و يجب عليه دفعها من كيسه، فهي بالنسبة إلى العاقلة تكليف محض.

فلو فرضنا أنّه في صورتي الخطأ لم يكن للقاتل مال كما إذا كان شبيها بالعمد و كان القاتل عاجزا عن دفع الدية، أو كان من الخطأ المحض و لم تؤدّ العاقلة عنه و هو عاجز عن دفع الدية، ففي هذه الصورة على من تكون الدية؟

في هذه الصورة تكون الدية على الإمام عليه السّلام لا بما هو شخص بل بما هو إمام يعني لا يجب عليه أن يؤدّي الدية من ماله الشخصي، و إنّما يؤدّي من بيت المال على ما صرح به في بعض الروايات المعتبرة و إن لم يكن نص في خصوص المقام يعني لم يرد في الخطأ بكلا قسميه شي ء من ذلك لا نص قوي و لا ضعيف، إلّا أنّه لا شك في أنّه لا بدّ من دفع الدية من بيت المال، و ذلك لورود صحيحتين في غير المقام يستفاد منهما حكم المقام:

إحدى الصحيحتين وردت في الأعمى و أنّه إذا قتل أحدا لا قصاص عليه [1]،

______________________________

[1] الموجود في الوسائل 29: 89 باب 35 من أبواب القصاص في النفس رواية واحدة و ليس فيها (قتل)

محاضرات في

المواريث، ص: 208

فهو مستثنى من القصاص كالأب.

فينتقل الأمر إلى الدية و هو في حكم الخطأ فكما أن عمد الصبي خطأ كذلك عمد الأعمى خطأ أيضا فينتقل الأمر إلى الدية.

سئل الإمام عليه السّلام عن أعمى قتل رجلا و ليس له مال، فأجاب عليه السّلام: «أنّه من بيت المال فإنّه لا يبطل دم امرئ مسلم» فلا يذهب مال المسلم هدرا، بل لا بدّ من القصاص أو من الدية، فإن لم تكن دية فعلى الإمام أن يؤدي الدية لأن دم المسلم لا يبطل.

و الصحيحة الثانية «1» واردة في هرب القاتل إذا هرب و لم يمكن الاقتصاص منه، قال عليه السّلام: «تؤخذ الدية من ماله، فإن لم يكن له مال فمن الأقربين إليه، فإن لم يكن للأقربين مال أو لم يكن له أقرباء فعلى الإمام، فإنّه لا يبطل دم امرئ مسلم».

ففي هاتين الصحيحتين وردت هذه الجملة: «فإنّه لا يبطل دم امرئ مسلم» فهي بمنزلة الكبرى الكلّية و أنّه في أي مورد لا يبطل دم امرئ مسلم، فإذا أدّى الجاني خطأ الدية أو عاقلته فهو، و إلّا فعلى الإمام إذا لا يبطل دم امرئ مسلم، فمن هذا التعليل في هاتين الصحيحتين و بيان الكبرى الكلّية يظهر حكم المقام أيضا.

______________________________

و إنّما الموجود (فقأ عين شخص) عن أبي عبيدة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن أعمى فقأ عين صحيح، فقال: «إن عمد الأعمى مثل الخطأ هذا فيه الدية في ماله، فإن لم يكن له مال فالدية على الإمام و لا يبطل حقّ امرئ مسلم».

______________________________

(1) الوسائل 29: 395 باب 4 من أبواب العاقلة، ح 1.

محاضرات في المواريث، ص: 209

الكلام في مقدار الدية

اشارة

أمّا بالنسبة إلى مقدار دية قتل النفس المحترمة فديتها على ما

هو المعروف و المشهور، بل لم ينقل الخلاف عن أحد و أرسلوا الحكم إرسال المسلمات أنّها على ما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج «1» و غيرها: الدية ماءة من الإبل، أو مائتان من البقر، أو ألف شاة، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم- كلّ دينار بعشرة دراهم- أو مائتا حلة من حلل اليمن.

الدية أحد هذه الأمور و لا إشكال في ذلك باعتبار صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج و غيرها، فإنّه و إن كان المذكور فيها أن ماءة من الإبل تجب على أصحاب الإبل و مائتان من البقر على أصحاب البقر، و ألف شاة على أرباب الشياه، و بالنسبة إلى من يملك الورق ألف دينار أو عشرة آلاف درهم، و بالنسبة إلى أهل اليمن مائتا حلة.

لكن لا شكّ في عدم اختصاص الحكم بمن يكون مالكا لأحد هذه الأمور يعني من يملك الإبل يجب أن يدفع من الإبل فإن هذا من جهة التخيير و عدم الزام القاتل بأن يحصل مالا آخر، فإذا فرضنا أنّه يملك غنما لا يجب عليه تحصيل البقر، أو

______________________________

(1) الوسائل 29: 193 باب 1 من أبواب ديات النفس، ح 1.

محاضرات في المواريث، ص: 210

تحصيل الإبل، بل يكفي أن يدفع ألف شاة كلّ عشرة ببعير، و ليس هذا من باب الاختصاص و الاختلاف بالنسبة إلى الأشخاص بمعنى أنّ بعضهم يجب عليه الإبل و البعض الآخر يجب عليه البقر و هكذا، بل هو من باب التخيير.

إذا يكون القاتل خطأ بكلا قسميه مخيرا بين هذه الأمور و ليس لولي المقتول إلزامه بأحدها، و وجهه واضح فإن ولي المقتول لا يملك إلّا الجامع بين هذه الأمور الستة و لا يملك الخصوصية، فليس له إلزام

القاتل تطبيق هذا الجامع على فرد معين، بل يكون القاتل مخيرا كما في سائر موارد ملك الكلي، كلّ من عليه كلي يكون مخيرا في دفع أي فرد شاء، كما إذا باع صاعا من صبرة فالاختيار بيد البائع يطبّق الصاع على أي فرد شاء من الصبرة.

و في المقام أيضا الذي يملكه ولي المقتول على القاتل إنّما هو الجامع بين هذه الأمور فيكون التطبيق بيد القاتل و ليس لولي المقتول إجباره على أحدها المعين.

و بين هذه الأفراد فرق كبير من حيث المالية، فألف شاة إذا فرضنا أن كلّ شاة ستيّن دينارا فيكون المجموع ستين ألف دينار، و أمّا إذا حسبنا بالدراهم يكون ما يقرب من خمسة آلاف دينار، لأن كلّ عشرة دراهم خمسة مثاقيل و ربع بالمثقال الصيرفي، فتكون عشرة آلاف درهم خمسة آلاف و مائتان و خمسين مثقالا صيرفيا.

و هكذا بالنسبة إلى الذهب ألف مثقال من الذهب القيمة تكون غالية جدا، و المراد بالمثقال- على ما ورد في غير واحد من الروايات- هو المثقال الشرعي الذي يساوي ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي يعني كلّ مثقال شرعي يكون ثمانية

محاضرات في المواريث، ص: 211

عشر حبّة، فإنّ المثقال الصيرفي أربع و عشرين حبّة، فألف مثقال يكون سبعمائة و خمسين مثقالا صيرفيا فتكون القيمة زائدة لا محالة.

فكيف ما كان الاختيار بيد القاتل و له دفع أي فرد شاء من هذه الأفراد.

هذا كلّه بالنسبة إلى قتل الرجل.

و أمّا إذا كان المقتول امرأة:

إذا كان المقتول امرأة فتنصّف الدية- على ما صرّح به في غير واحد من الروايات [1]- من غير خلاف في المسألة، فدية النفس في المرأة نصف دية الرجل، فتكون خمسمائة مثقال من الذهب، أو خمسة آلاف درهم، أو خمسين من الإبل ..

و هكذا،

فديتها نصف دية الرجل و الاختيار أيضا بيد القاتل يختار أي فرد شاء.

هذا بالنسبة إلى دية النفس.

______________________________

[1] دلّت على ذلك الروايات المستفيضة و فيها الصحاح نذكر منها على سبيل المثال صحيحة عبد اللّه بن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث- قال عليه السّلام: «دية المرأة نصف دية الرجل». الوسائل 29: 205، باب 5 من أبواب ديات النفس ح 1، و في نفس المصدر: 80 باب 33 من أبواب قصاص النفس ح 1، عبد اللّه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول في رجل قتل امرأته [امرأة] متعمّدا، قال عليه السّلام: «إن شاء أهلها أن يقتلوه قتلوه، و يؤدّوا إلى أهله نصف الدّية، و إن شاءوا أخذوا نصف الدّية خمسة آلاف درهم» و غيرها ممّا دلّ على ذلك، و من أراد المزيد من التحقيق فليراجع مباني تكلمة المنهاج ج 2، ص: 254.

محاضرات في المواريث، ص: 212

الكلام في قتل الجنين خطأ

اشارة

إذا فرضنا أن المقتول بعد جنين و لم تلج فيه الروح فلا تكون ديته دية النفس، بل ذكروا لذلك مراتب طبقا للآية المباركة فقالوا: إن الجنين قد يكون نطفة، و قد يكون علقة، و قد يكون مضغة، و قد يصير عظما، و قد يكسوا العظم لحما- على ما هو مذكور في الآية المباركة- وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنْ سُلٰالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظٰاماً فَكَسَوْنَا الْعِظٰامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اللّٰهُ أَحْسَنُ الْخٰالِقِينَ «1» فتلج فيه الروح فيكون إنسانا كاملا ذكرا أو انثى، فلو فرضنا أنّ أحدا ارتكب خطأ فأسقط جنينا هي ديته؟

المتسالم عليه بين الفقهاء، و لم

ينسب الخلاف إلّا إلى العمّاني أنّه في هذه المراتب الخمسة تكون الدية في المرتبة الاولى: عشرون دينارا، و في الثانية أربعون، و في الثالثة ستون، و في الرابعة ثمانون، و في الخامسة ماءة، و بعد المرتبة الخامسة و هي (إن شاء خلق آخر) دية كاملة باعتبار أنّه إنسان حي، فقد قتل نفسا فعليه الدية الكاملة.

______________________________

(1) المؤمنون: 12- 14.

محاضرات في المواريث، ص: 213

يدلنا على ذلك معتبرة ظريف «1» فقد جاء في هذه المعتبرة أن الدية قبل أن يكون إنسانا و قبل أن يكون داخلا تحت قوله سبحانه ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ الدية ماءة و تقسّم على خمسة أجزاء باعتبار المراتب المتقدّمة لكلّ مرتبة عشرون دينارا فإذا أسقط الجنين في المرتبة الاولى حال كونه نطفة الدية عشرون دينارا ..

و هكذا إلى آخر المراحل.

هذا ما ذكر في معتبرة ظريف و هو متسالم عليه بين الفقهاء و قد نسب إلى العماني أنّه إذا كان في المرتبة الخامسة و هي ما إذا كسى العظم لحما فديته دية كاملة، كما فيما إذا ولجته الروح، فلا فرق بين ولوج الروح و ما قبل ولوج الروح في ذلك، و أمّا ما قبله فالحال كما ذكرناه.

و استدل على ذلك بروايتين صحيحتين:

ففي إحداهما بعد ما ذكر الإمام عليه السّلام أنّه في النطفة عشرون، و في العلقة أربعون، و في المضغة ستّون، قال: «و إذا كان عظما فعليه الدية» «2» و الظاهر من قوله: «عليه الدية» الدية الكاملة.

______________________________

(1) ففي الوسائل 29: 312 باب 19 من أبواب ديات الأعضاء، ح 1. عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «جعل دية الجنين ماءة دينار، و جعل مني الرجل إلى أن يكون جنينا خمسة أجزاء، فإذا كان جنينا قبل

أن تلجه الروح ماءة دينار، و ذلك أن اللّه عزّ و جلّ خلق الإنسان من سلالة و هي النطفة فهذا جزء، ثمّ علقة فهو جزءان، ثمّ مضغة فهو ثلاثة أجزاء، ثمّ عظما فهو أربعة أجزاء، ثمّ يكسا لحما فحينئذ تمّ جنينا فكملت له خمسة أجزاء ماءة دينار، و المائة دينار خمسة أجزاء، فجعل للنطفة خمس المائة عشرين دينارا، و للعلقة خمسي المائة أربعين دينارا، و للمضغة ثلاثة أخماس المائة ستين دينارا، و للعظم أربعة أخماس المائة ثمانين دينارا، فإذا كسى اللحم كانت له ماءة كاملة، فإذا نشأ فيه خلق آخر و هو الروح فهو حينئذ نفس بألف دينار كاملة إن كان ذكرا و إن كان أنثى فخمسماءة دينار ..».

(2) الوسائل 29: 313 باب 19 من أبواب ديات الأعضاء، ح 2.

محاضرات في المواريث، ص: 214

و في الصحيحة الثانية: فرض أنّه كسى لحما فإذا كان عظما و كسى لحما فعليه دية كاملة «1».

طبعا إطلاق الصحيحة الاولى يقيّد بالثانية يعني إذا كان عظما و كسى لحما تكون عليه الدية كاملة، و أفتى بمضمونها العماني.

و لكن هذا لا يمكن أمّا أوّلا: فلإمكان حمل ذلك على ما إذا ولجته الروح، فيقال إذا كسى لحما و ولجته الروح يعني نقيد الإطلاق في هذه الصحيحة بولوج الروح على ما دلّت عليه معتبرة ظريف، فتكون معتبرة ظريف مقيدة لهاتين الصحيحتين فيرتفع التنافي.

و لو فرضنا أن هذا لم يكن جمعا عرفيا و التزمنا بأن الصحيحتين معارضتان لمعتبرة ظريف أيضا النتيجة ذلك، و ذلك لأن الأمر دائر بين الأقل و الأكثر، غايته سقوط الروايتين من جهة المعارضة، فيدور الأمر بين أن تكون الدية ماءة دينار كما صرح به في معتبرة ظريف، أو أن تكون

الدية كاملة على ما دلت عليه هاتان الروايتان، فيكون الأمر دائرا بين الأقل و الأكثر، المتيقّن هو المائة دينار و الزائد عليه ينفي بأصالة البراءة.

فالنتيجة: أن ما ذهب إليه المشهور من أن الدية ماءة دينار هو الصحيح.

يقع الكلام فيما يعارض معتبرة ظريف:

و المعارضة من جهات:

______________________________

(1) الوسائل 29: 314 باب 19 من أبواب ديات الأعضاء، ح 4 عبارة الرواية هكذا: فقلت: فيضربها فتطرحه و قد صار له عظم، فقال: «عليه الدية كاملة» و في ذيل الرواية: فقال: «إذا كان عظما شقّ له السمع و البصر و رتّبت جوارحه، فإذا كان كذلك فإنّ فيه الدية كاملة».

محاضرات في المواريث، ص: 215

الجهة الأولى: إن المعارضة كانت في المرتبة الخامسة على ما دلت عليه معتبرة ظريف و تسالم عليه الفقهاء أنّ الدية فيها ماءة دينار، و لكن العماني خالف في ذلك- كما ذكرنا- و قلنا إن هذا يستفاد من بعض الصحاح و قد تقدّم الكلام فيها.

الجهة الثانية من المعارضة: أن هذه المعتبرة دلّت على أن الدية فيها دية النفس، فإذا كان ذكرا فألف دينار و إذا كانت أنثى فخمسماءة دينار، أو غير ذلك- على ما تقدّم دية الانثى نصف دية الذكر- و يعارضها في هذه الجهة صحيحة علي بن الجهم و الحلبي «1»، ففي هذه الصحيحة أنّه قتل رجل امرأة خطأ و هي على رأس الولد في حالة المخاض، أجاب عليه السّلام بأنّه عليه خمسة آلاف درهم و هذا مطابق لما في بقية الروايات، لأن المقتول امرأة و المرأة ديتها نصف دية الرجل فتكون خمسة آلاف درهم.

و أمّا بالنسبة إلى دية الجنين فذكر عليه السّلام أن عليه دية الجنين لأن المفروض أنه مات معها ذكر أن فيه أربعين دينارا،

أو وصيف أو وصيفة- يعني عبدا أو أمة- فهو مخير بين هذه الأمور الثلاثة: أربعين دينارا أو وصيفا أو وصيفة حمل الشيخ قدّس سرّه هذه الرواية على حالة العلقة و المضغة و هو بعيد، بل لا يحتمل، لأنّه فرض فيها أن المرأة على رأس الولد و هي في حالة المخاض.

كيف يمكن حملها على العلقة أو على المضغة و المفروض أنّها في حال الولادة فقتلت خطأ؟! فعلى القاتل ديتان: دية نفس المرأة، و دية نفس ما في بطنها.

______________________________

(1) الوسائل 29: 320 باب 20 من أبواب ديات الأعضاء، ح 6. عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن رجل قتل امرأة خطأ و هي على رأس ولدها تمخض، فقال: «خمسة آلاف درهم، و عليه دية الذي في بطنها وصيف أو وصيفة أو أربعون دينارا» إلّا أن المذكور في سند الرواية ليس (علي بن الجهم) بل المذكور:

(عن أبي عبيدة و الحلبي).

محاضرات في المواريث، ص: 216

فإذا هذه الرواية تعارض ما تسالم عليه الأصحاب و الذي دلّت عليه معتبرة ظريف من أن الدية دية كاملة، فإذا كان مورد الرواية ما ولجته الروح حيث أنّه كان في شرف الولادة لا يمكن الالتزام بهذه الرواية لأنّه لم يقل بمضمونها أحد لا من الخاصّة و لا من العامّة.

كيف يمكن أن يقال إن الإنسان الكامل الذي هو في شرف الولادة ديته أربعون دينارا- يعني أقل من المضغة- أو وصيفا أو وصيفة؟! هذا مقطوع البطلان جزما فتسقط هذه الرواية و لا بدّ من رد علمها إلى أهله. حتّى من العامّة لم يقل أحد منهم بذلك لنقول بحملها على التقية.

الجهة الثالثة من المعارضة: فقد دلت معتبرة ظريف على أن دية العلقة و المضغة أربعين

دينارا و ستّين دينارا حتّى يكون عظاما فتكون ثمانين.

و قد دلت جملة من الروايات على أن الدية وصيف أو وصيفة (غرّة عبد أو أمة) أحد هذه الأمور هو الدية:

منها: ما رواه داود بن فرقد في الصحيح أن امرأة ألقت ما في بطنها بضرب رجل إياها فاسقطت، فاستعدت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فشكت عنده، فقال الرجل: إنّه لم يهل و لم يصح و مثله يطل- أي يكون دمه هدرا- فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اسكت سجّاعة عليك غرّة وصيف أو وصيفة» «1» فحكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن الدية أحد هذين الأمرين.

فتكون هذه الرواية معارضة لما دلّ على أن الدية أربعون دينارا أو ستّون دينارا.

و منها: معتبرة السكوني «2» فيها أيضا أنّه إذا قتلت امرأة فدية الجنين غرّة

______________________________

(1) الوسائل 29: 319 باب 20 من أبواب ديات الأعضاء، ح 2.

(2) الوسائل 29: 319 باب 20 من أبواب ديات الأعضاء، ح 3.

محاضرات في المواريث، ص: 217

وصيف أو وصيفة.

و منها: صحيحة سليمان بن خالد «1» أيضا ورد فيها ذلك: أن أحدا ضرب امرأة فألقت ما في بطنها ميتا فشكت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال زوجها: إنّه فعل كذا و ألقى ما في بطنها، فقال الضارب: إنّه لم يصح و لم يهل و ما استبش و مثله يطل، فأجاب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما تقدّم: إنّك رجل سجّاعة فقضى فيه رقبة.

فهذه الروايات تعارض ما تقدّم من أن الدية أربعون أو ستّون دينارا.

فلو كانت هذه الروايات واردة في خصوص العلقة و المضغة لأمكن القول بأن المعارضة بين هذه الصحاح

و معتبرة ظريف معارضة من جهة الإطلاق، فإن كلا منهما ظاهر في الوجوب المطلق و الإطلاق يقتضى الوجوب التعييني، فيجمع بينهما برفع اليد عن ظاهر كل منهما بنص الآخر، فتكون النتيجة التخيير بين أربعين و غرّة، أو بين ستّين و غرة، لأنّ مقتضى معتبرة ظريف أنّ الواجب هو أربعون دينارا أو ستّون دينارا على التعيين. و مقتضى هذه الصحاح الواجب هو غرّة على التعيين. فيرفع اليد عن ظهور كل منهما بنص الآخر، فينتج أن الواجب هو التخيير.

و لكن لا يمكن الالتزام بذلك، فإن مورد هذه الصحاح ليس خصوص العلقة و المضغة بل هو مطلق الجنين و لا سيما التعبير بقوله: (و ألقته ميتا) فإن كلمة (ميت) ظاهرة فيما كان ولجته الروح، فالروايات تكون مطلقة من هذه الجهة أنّه ألقت ما في بطنها بالضرب ليس مقيدا بخصوص العلقة أو المضغة- و إن كان الشيخ قدّس سرّه حمل هذه الروايات على ذلك إلّا أنّه لا موجب لهذا الحمل أصلا- فإذا كانت الروايات

______________________________

(1) الوسائل 29: 319 باب 20 من أبواب ديات الأعضاء، ح 4.

محاضرات في المواريث، ص: 218

مطلقة معناه أن الجنين سواء ولجت فيه الروح أم لم تلج فيه الروح إذا أسقط و كان ميتا فديته غرّة على الإطلاق.

و هذا لم يقل به أحد منّا، و إنّما نسب إلى العامّة فتكون الروايات معارضة لمعتبرة ظريف، و مع المعارضة تحمل على التقية، فمعتبرة ظريف تبقى بلا معارض.

خلاصة ما تقدّم:
اشاره

فالمتحصّل مما ذكرناه أن ما ذكره المشهور من المراتب و أن الدية بحسب المراتب، و بعد ولوج الروح تكون الدية كاملة هو الصحيح.

و ليس شي ء من هذه الروايات قابل لرفع اليد بها عن معتبرة ظريف، و لا سيّما أن الحكم

متسالم عليه و لم ينسب الخلاف إلّا إلى العماني و قد تقدّم الكلام فيه.

إشكال و دفع
تحرير الإشكال:

تقدّم الكلام في دية الجنين و أنّها على خمس مراتب: ففي المرتبة الاولى عشرون دينارا، و في الثانية أربعون، و في الثالثة ستّون، و بعده ثمانون، و في المرتبة الخامسة التي يكسى العظم لحما و يشق فيه السمع و البصر و يتشكل الإنسان بصورته الكاملة قبل ولوج الروح ففيه ماءة دينار، و قد دل على ذلك معتبرة ظريف و تكلمنا في ما يعارض ذلك.

و المحقّق القمّي قدّس سرّه ذكر ذلك و أشكل على المشهور بأنّهم لم يفرقوا في المسألة الخامسة بين الذكر و الانثى، فذكروا أن الدية ماءة دينار و هذا لا ينطبق على ما هو

محاضرات في المواريث، ص: 219

المقرّر من أن دية الانثى نصف دية الذكر، فعليه لا بدّ من التفصيل بأن يقال في المرتبة الخامسة التي شكل فيها الإنسان و صار ذا عظم و لحم و شق له السمع و البصر: إن كان ذكرا ففيه ماءة، و إن كان انثى ففيه خمسون، لأن للأنثى نصف ما للذكر.

و استشهد على ذلك بما يستفاد من معتبرة ظريف من أنّه إذا قتلت المرأة و لم يعلم ما في بطنها أذكر هو أم انثى فيقدّر تارة ذكرا و يقدّر تارة انثى- كما في إرث الخنثى على ما نتكلّم فيه- ففي هذا دلالة على أن دية الذكر ضعف دية الانثى [1]، فلا يصح إطلاق القول بأن الدية ماءة دينار.

و أيضا ورد في هذه المعتبرة أنّه إذا ورد جرح على الجنين يكون الجرح على حساب المائة، هنا أيضا لا بدّ من ملاحظة الذكورية و الانوثية، فإن كان ذكرا فيكون بالنسبة إلى المائة، و

إن كان انثى فيكون بالنسبة إلى الخمسين.

دفع الإشكال:

و لكن ما ذكره قدّس سرّه لا يمكن المساعدة عليه بوجه فإن الميزان الكلي في أنّ (دية الانثى نصف دية الذكر) إنّما هو بالنسبة إلى ما فوق الثلث، فإذا بلغت الدية الثلث تكون دية الانثى نصف دية الذكر، و أمّا قبل الثلث فلا، قال عليه السّلام: «المرأة تعاقل الرجل إلى الثلث فإذا بلغت الثلث فدية المرأة نصف دية الرجل» [2] و إنّما ثبت هذا

______________________________

[1] فقد جاء في معتبرة ظريف: «و إن قتلت امرأة و هي حبلى متمّ فلم يسقط ولدها و لم يعلم أذكر هو أو انثى، و لم يعلم أبعدها مات أم قبلها فديته نصفان: نصف دية الذكر و نصف دية الانثى، و دية المرأة كاملة بعد ذلك، و ذلك ستة أجزاء من الجنين .. و قضى في دية جراح الجنين من حساب المائة على ما يكون من جراح الذكر و الانثى ..». راجع الوسائل 29: 312 و ما بعدها باب 19 من أبواب ديات الأعضاء، ح 1.

[2] قال أبان بن تغلب: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها؟ قال:

محاضرات في المواريث، ص: 220

فيما إذا تجاوزت الدية الثلث.

و في المقام حيث أن الدية ماءة و هي عشر الدية لأن الدية الكاملة ألف دينار، فالمائة تكون عشرا و لا مانع من اشتراك الذكر و الانثى في هذا المقدار. فكلّ منهما يأخذ المائة من دون فرق بينهما.

هذا بالنسبة إلى الكبرى الكلية.

و أمّا بالنسبة إلى معتبرة ظريف أيضا يظهر ذلك منها بوضوح، فإنّه عليه السّلام ذكر مراتب الدية: عشرون، أربعون، ستّون، ثمانون، ماءة، ثمّ ذكر بعد ذلك أنّه

إذا ولجت فيه الروح ففيه الدية كاملة، فإن كان ذكرا فديته ألف، و إن كان انثى فديتها خمسمائة، فذكر التنصيف بعد ولوج الروح لا قبله فمقتضى الإطلاق في هذه المعتبرة أنّه قبل ولوج الروح الدية ماءة بلا فرق بين الذكر و الانثى.

ثمّ ذكر عليه السّلام أنّه إذا قتلت المرأة و في بطنها جنين لا يعلم أنّه ذكر أم أنثى فتكون الدية نصف دية الذكر و نصف دية الانثى، فذكر هذا بعد ما ذكر أن دية الرجل ألف و دية الانثى خمسمائة، فالمفروض في المعتبرة أنّه ولجت فيه الروح، فإن كان الذي ولجت فيه الروح علم أنّه ذكر فديته دية الذكر، و إن علم أنّه أنثى فالدية دية الانثى، و إن لم يعلم و شكّ في أنّه من أيهما فالدية تكون نصف دية الذكر و نصف دية الانثى.

______________________________

«عشرة من الإبل»، قلت: قطع اثنين؟ قال: «عشرون»، قلت: قطع ثلاثا؟ قال: «ثلاثون»، قلت: قطع أربعا؟ قال: «عشرون»، قلت: سبحان اللّه يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون، و يقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟! إن هذا كان يبلغنا و نحن بالعراق فنبرأ ممن قاله، و نقول: الذي جاء به شيطان، فقال: «مهلا يا أبان هذا حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس، و السنّة إذا قيست محق الدين».

راجع الوسائل 29: 352 باب 44، من أبواب ديات الأعضاء، ح 1.

محاضرات في المواريث، ص: 221

فليست هذه الجملة ناظرة إلى ما قبل ولوج الروح، بل هي ناظرة إلى ما بعد ولوج الروح.

و كذلك قوله عليه السّلام فإذا جرح فبنسبة المائة أيضا مطلق

بين الذكر و الانثى، الجنين في بطن أمّه بعد ما تشكل بشكل إنسان و قبل أن تلج فيه الروح جرح فحساب الجرح يكون بحساب المائة، فإذا قطعت منه يد واحدة فديته نصف المائة، و إذا كانت اليدان فتمام المائة لأن لكلّ يد نصف و هكذا بالنسبة إلى بقية الأعضاء، فتلاحظ نسبة ذلك العضو إلى البدن و يعطى بنسبة المائة، و هذا أيضا مطلق يشمل الذكر و الانثى.

النتيجة:

إذا الصحيح ما ذهب إليه المشهور من عدم الفرق بين الذكر و الانثى قبل ولوج الروح، الدية ماءة سواء كان ذكرا أم كان انثى لا يفرق بينهما.

و هذا أيضا مطابق لغير ما نحن فيه من الروايات من أن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا تجاوز الثلث رجعت إلى النصف فتكون دية المرأة نصف دية الرجل و أمّا قبل ذلك فلا.

محاضرات في المواريث، ص: 222

الكلام في تحقيق مراتب الجنين من حيث المدة الزمنية لكل منها

ثمّ إنّه وقع البحث في تحديد هذه المراتب من حيث الزمان فأي مقدار من الزمان يكون الجنين نطفة، و أي مقدار يكون فيه علقة .. و هكذا.

الوارد في الروايات المعتبرة في المقام كمعتبرة ابن فضّال «1»، و صحيحتين لزرارة «2» أن المدة أربعون يوما، فأربعون يوما يكون نطفة، و أربعون يوما علقة، و أربعون مضغة، ففي أواخر المضغة أو أواسطها يشرع في العظام، ثمّ يكسو لحما بعد ثلاث أربعينات- يعني أربعة أشهر- و بعد ذلك تلج فيه الروح فيكون خلقا آخر فَتَبٰارَكَ اللّٰهُ أَحْسَنُ الْخٰالِقِينَ هذا هو الذي دلّت عليه هذه الروايات المعتبرة.

إذا إلى أربعين يوما الدية عشرون دينارا، ثمّ إلى أربعين يوما بعد ذلك الذي يكون فيه علقة الدية أربعون و هكذا إلى أن ينتهي إلى المرتبة الخامسة.

و نسب إلى ابن إدريس قدّس سرّه أنّه جعل المراتب عشرين عشرين، و هذا لم يدل

______________________________

(1) الكافي 6: 13، باب 6 من أبواب العقيقة، ح 3.

(2) الكافي 6: 13 و 16، باب 6 من أبواب العقيقة، ح 4 و 7.

محاضرات في المواريث، ص: 223

عليه أي رواية لا ضعيفة و لا قوية، بل لعل ذلك خلاف الوجدان- على ما نقل عن الأطباء- لا يكون بعد العشرين علقة أو بعد الأربعين

مضغة.

إذا المتبع هي الروايات المتقدّمة.

نعم هناك رواية واحدة معتبرة عن البزنطي «1» ذكر فيها أنّه يكون نطفة ثلاثين يوما، و يكون علقة ثلاثين يوما، و يكون مضغة ثلاثين يوما، ثمّ بعد ذلك تكون مخلقة و غير مخلقة أيضا ثلاثين يوما، فأربع ثلاثينات أيضا أربعة أشهر، و بعد ذلك تلج فيه الروح.

هذه الرواية لا بدّ من رد علمها إلى أهله فإنّها مخالفة لظاهر الآية المباركة:

فَإِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ «2» يعني تام الخلقة و غير تام الخلقة، فالمخلقة و غير المخلقة من صفات المضغة، يعني بعد ما يكون مضغة فحينئذ تارة يكون مخلقة- أي تام الخلقة- و اخرى غير تام الخلقة، لا أنّ المخلقة و غير المخلقة قسيم للمضغة كما في هذه الرواية، يقول ثلاثين يوما مضغة، ثمّ تكون مخلقة و غير مخلقة، فهذه الرواية تطرح لمخالفتها للآية المباركة.

و مع قطع النظر عن ذلك لو فرضنا المعارضة بينها و بين الروايات المتقدّمة يعني معتبرة ابن فضّال و صحيحتي زرارة فبما أن الأمر دائر بين الأقل و الأكثر فبالنسبة إلى الزائد يرجع إلى البراءة، فبعد ثلاثين يوما إلى أربعين يوما مقتضى صحيحتي زرارة أن الدية عشرون لأنّه في حالة النطفة تكون الدية عشرين دينارا و مقتضى

______________________________

(1) الوسائل 7: 142 باب 64 من أبواب الدعاء، ح 4.

(2) الحجّ: 5.

محاضرات في المواريث، ص: 224

هذه الصحيحة أن الدية أربعين دينارا لأنّه علقة، فالأمر دائر بين العشرين و الأربعين، فبالنسبة إلى الزائد أصالة البراءة محكمة، و هكذا بالنسبة إلى بقية المراتب، فكلما يشك في أن الدية زائدة أو غير زائدة، يؤخذ بالقدر المتيقّن و الزيادة تدفع بأصالة

البراءة.

محاضرات في المواريث، ص: 225

الكلام في مصرف الدية

المعروف و المشهور بين الفقهاء أن الدية تكون بمنزلة تركة الميت، فتخرج منها ديونه و وصاياه، ثمّ تقسّم بين الورثة فحكمها حكم التركة من جهة تقدّم الدين و الوصية على الإرث، فما بقي يوزع على الورثة على تفصيل يأتي إن شاء اللّه تعالى.

لا إشكال في هذه المسألة بحسب النص و الفتوى فقد وردت في المقام عدّة نصوص:

بعضها وردت في دية القتل الخطئي بالخصوص «1»، و أن الرجل إذا قتل خطأ فتخرج ديونه من ديته.

و بعضها الآخر وردت في القتل على الإطلاق «2»، عن الرجل يقتل، و الإمام عليه السّلام لم يستفصل أن القتل كان عمدا أم كان خطأ، أيضا حكم فيها بأنّه يخرج منها الدين.

و بعض الروايات كمعتبرة إسحاق بن عمّار ظاهرة في القتل العمدي، قال: «إذا قبلت دية العمد فصارت مالا فهي ميراث كسائر الأموال» «3» فهي دالة على أنّه في

______________________________

(1) راجع الوسائل 19: 285 باب 14 في أحكام الوصايا، ح 1 و 2.

(2) الوسائل 26: 286 باب 14 في أحكام الوصايا ح 3 و 26: 35 باب 10 من أبواب موانع الإرث.

(3) الوسائل 26: 41 الباب 14 من أبواب موانع الإرث ح 1.

محاضرات في المواريث، ص: 226

القتل عمدا إذا رضي بالدية و عفى عن القصاص يخرج منها الديون و يعمل فيها بوصيته.

إذا فالقتل بجميع أقسامه من الخطأ بقسميه و العمد كله يستفاد حكمه من هذه الروايات.

و نسب صاحب الجواهر قدّس سرّه «1» الخلاف إلى بعضهم في موردين و ذكر أنّه اجتهاد في مقابل النص- و الأمر كما ذكره قدّس سرّه-:

فنسب إلى بعضهم المنع من إخراج الديون و الوصايا في القتل العمدي بالخصوص، باعتبار أن في

القتل العمدي حقّ القصاص للولي و ليس حقّ القصاص للميت، فليس هذا من باب ما تركه الميت، و الدية بدل عن حقّ القصاص، و بما أن حقّ القصاص للولي و الوارث، فالدية أيضا للولي و الوارث و لا يخرج منها الديون و لا الوصايا لأنّها أجنبية عن الميت. هذا.

و لم يذكر من القائل بل نسبه إلى بعضهم.

و نسبة اخرى إلى بعضهم المنع من إخراج الديون و الوصايا مطلقا حتّى في القتل الخطئي باعتبار أنّه غير داخل فيما تركه الميت، بل الدية تنتقل إلى الوارث ابتداء، فلا يشملها ما دل على إخراج الديون و الوصايا كما ذكر في الآية المباركة:

مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ* فإن الميت لم يكن مالكا للدية حال حياته و بعد موته لا يملك، فالدية تنتقل رأسا إلى الوارث و لا تدخل في تركة الميت.

لو كنا نحن و القاعدة و لم يرد نص في المقام لالتزمنا بذلك و قلنا لا تخرج ديون الميت و لا وصاياه من الدية باعتبار أنّه لم يملك هذا المال حال حياته، و كذلك نلتزم

______________________________

(1) الجواهر 39: 45.

محاضرات في المواريث، ص: 227

بأن حقّ القصاص بما أنّه للولي فبدله أيضا يكون للولي، فلا يكون داخلا فيما تركه الميت.

إلّا أنّ النصوص كافية و وافية و مقتضى هذه النصوص- و لو تنزيلا- يعامل مع الدية معاملة التركة، فكأن الميت كان مالكا لهذا المال حال حياته. هذا من ناحية.

و من ناحية ثانية أن ما ذكر من الوجه لعدم الانتقال إلى الميت إمّا مطلقا أو في خصوص العمد باعتبار أن حقّ القصاص للوارث لا يمكن المساعدة عليه في نفسه- حتّى مع قطع النظر عن الروايات الواردة في المقام- و ذلك

لأن الظاهر من الأدلّة أن الدية إنّما هي ملك الميت و لو ملكه بعد الموت أيضا داخل في ما ترك، مات و له مال لا يتمكّن من التصرف فيه ينتقل إلى ورثته.

المستفاد من الروايات أن الدية ملك الميت و تنتقل منه إلى وارثه، لا أنّها تنتقل إلى الوارث ابتداء إمّا في الخطأ أو في خصوص القتل العمدي.

و يستفاد هذا من عدّة روايات:

منها: ما دل على أنّ القتل العمدي إذا لم يمكن القصاص و لو من جهة فرار القاتل ينتقل الأمر إلى الدية، فإن كان له مال تؤخذ الدية من ماله، و إن لم يكن له مال تؤخذ من الأقرب فالأقرب ممّن ينتمون إليه، فإن لم يكن له قريب يؤخذ من بيت المال معللا بأن دم المسلم لا يذهب هدرا «1»، يستفاد من هذه الرواية أن الدية حتّى في القتل العمدي ليست بدلا عن القصاص، بل هي بدل عن الدم باعتبار أن دم المؤمن لا يذهب هدرا، فللدم بدلان: البدل الأوّل هو القصاص، فإن أمكن

______________________________

(1) الوسائل 29: 395 باب 4 من أبواب العاقلة، ح 1 و 3.

محاضرات في المواريث، ص: 228

فهو، و إلّا فينتقل إلى البدل الثاني و هو الدية، فالدية بدل عن النفس، لا بدل عن حقّ القصاص.

إذا يكون هذا راجعا إلى الميت، لأنّ النفس كانت نفسا له فالبدل أيضا يكون له فينتقل منه إلى ورثته.

و يؤكّد ذلك أن حقّ القصاص مختص بالرجال من طرف الأب فقط، و ليس ثابتا لكلّ وارث، بل هو ثابت لخصوص العصبة كالأعمام و أبناء الأعمام، و الأب و الابن و الأخوة من الأب و أمثال ذلك.

فلا يثبت حقّ القصاص للنساء على الإطلاق و في الرجال أيضا الزوج

ليس له حقّ القصاص.

إذا حقّ القصاص ثابت لطائفة خاصة من الورثة مع أن الدية تنتقل إلى جميع الورثة بلا إشكال، فيستكشف من هذا بوضوح أن الدية ليست بدلا عن حقّ القصاص و لو كانت بدلا عن حقّ القصاص لاختصّت بمن له هذا الحقّ مع أنّه ليس كذلك، الزوج و النساء كلّهم يرثون من الدية مع أنّ حقّ القصاص مختصّ بطائفة خاصة فلو كانت الدية بدلا عن حقّ القصاص و لم تكن بدلا عن النفس- كما هو الظاهر من الرواية التي ذكرناها- كيف يمكن أن نلتزم بتقسيم الدية على جميع الورثة مع أنّ حقّ القصاص لم يكن لجميعهم. هذا.

و أيضا يستفاد ذلك من بعض الروايات المعتبرة «1» من أن الوارث لو عفى عن الدية حتّى في دية القتل العمدي عفى عن القصاص و عفى عن الدية يكون ضامنا

______________________________

(1) راجع الوسائل 29: 123 باب 59 من أبواب القصاص في النفس، ح 1 و 18: 364 باب 24 من أبواب الدين و القرض، ح 1.

محاضرات في المواريث، ص: 229

للميت إذا كان مدينا، فلو فرضنا أن المقتول مدين ليس للوارث أن يتنازل عن حقّ القصاص و عن الدية معا، فلو تنازل و عفى عن القصاص و عن الدية يكون بالنسبة إلى الدية ضامنا، فيستكشف من هذا أن الدية ملك للميت و مال الميت ينتقل منه إلى الوارث، و إلّا فما معنى الضمان لو كانت الدية حقّ الوارث و قد فرضنا أنّه عفى عما هو ملك له.

فالضمان لا يتصوّر إلّا بأن يكون مالا للميت فينتقل منه إليهم، فلو كان دين طبعا لا ينتقل إلى الوارث لأن الإرث إنّما هو بعد الدين مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ*.

فيستفاد

من هذه الروايات أن الدية إنّما هي للميت و تنتقل منه إلى وارثه.

و لا مانع من ملك الميت حيث أنّ الملكية أمر اعتباري- كما ذكرنا غير مرة- فلا مانع من فرض أن يكون الميت مالكا، كما هو الحال فيما إذا نصب شبكة لصيد السمك و مات و بعد موته دخلت سمكة في شبكته يعتبر هذا ملكا للميت، و بعده ينتقل إلى الورثة، فالملكية أمر اعتباري يكون قائما بالحي و بالميت، بل يكون قائما بالجمادات أيضا كملك المسجد يقف شيئا للمسجد فيكون المسجد مالكا أو غير ذلك، و تمام الكلام في محله.

إذا فالصحيح الدية تعتبر ملكا للميت على جميع التقادير في القتل العمدي و الخطئي بقسميه و منه تنتقل إلى ورثته.

نعم في القتل العمدي لا يجب على الولي أخذ الدية فلهم حقّ القصاص- و لو فرضنا أن المقتول مدين- فإن الدية إنّما هي في مرتبة متأخرة، و الثابت في القتل العمدي هو القصاص، فلو اقتص الوارث و لم يقبل الدية لا يضمن شيئا للغرماء.

محاضرات في المواريث، ص: 230

الكلام في الإبراء

اشارة

لو فرضنا أن أحدا جرح شخصا فسرى الجرح إلى أن مات- و كان هذا عمديا أو غير عمدي لا فرق من هذه الجهة- و المجروح حال حياته أبرأ الجارح من الدية، فهل يكون هذا الإبراء نافذا؟ فإذا مات بعد ذلك لا يجب على الجاني أداء شي ء من الدية للورثة؟

أو أن هذا الإبراء لا أثر له، فلا تسقط الدية عن ذمة الجاني بإبراء المجروح له حال حياته؟

الصحيح أنّها لا تسقط بالإبراء، و الوجه في ذلك: أن الدية إنّما هي بعد الموت سواء كان القتل عمدا أم كان خطأ، فالدية موضوعها القتل فقبل القتل لا موضوع للدية، فهذا الإبراء

لما لم يجب و لا أثر له.

فإذا قال: إذا جرحتني فمتّ، أو قتلتني فمتّ فأنت بري ء لا أثر لهذا الإبراء، إبراء لأمر لم يحدث و الذمة فارغة منه، و إنّما يحدث بعد ذلك، فقد أبرأه في زمان لم يكن مالكا لذلك فلا أثر لهذا الإبراء، و يجب على القاتل أن يؤدّي الدية لأنّها إنّما تثبت في ذمته بعد موت المقتول، و هذا الإبراء اسقاط لما لم يجب.

ثمّ إنّه في المقام لا يفرق في الوارث بين السببي و النسبي فكما أن الوارث النسبي

محاضرات في المواريث، ص: 231

يرث من الدية كذلك الوارث السببي كالزوجية مثلا، فالزوج يرث من دية زوجته، و الزوجة ترث من دية زوجها،- و إن كانا لا يرثان من حقّ القصاص شيئا كما تقدّم الكلام فيه- النساء مطلقا ليس لهن حقّ القصاص، و الزوج أيضا ليس له حقّ القصاص، حقّ القصاص خاص بالعصبة، و أمّا بالنسبة إلى إرث الدية فلا فرق بينهم الجميع يرثون لإطلاق الأدلّة بأن الدية في حكم مال المقتول.

نعم وردت هنا نصوص خاصة من جملتها أن أمير المؤمنين عليه السّلام قضى بأن الأخوة و الأخوات من الأمّ لا يرثون من الدية «1»، فإرث الدية خاص بالمتقربين إلى المقتول من جهة الأب فلا يرث الأخوة و الأخوات من الأمّ.

و هذه الروايات موردها (الأخوة و الأخوات) إلّا أن الفقهاء- كما في عبارة المحقّق قدّس سرّه «2» عمّموا هذا الحكم لكلّ متقرب بالأمّ كالجد من الأمّ أو الخال لا يرثون من الدية.

و الوجه في ذلك: أمّا بالنسبة إلى الجد و الجدّة فقد ورد في غير واحد من الروايات «3»- كما سيجي ء الكلام في ذلك في الطبقة الثانية من الإرث- أن الجدّ و

الجدّة بمنزلة الأخ و الأخت فحكم الأخ و الأخت جار في الجدّ و الجدّة، ففي كلّ مورد كان الأخ و الأخت وارثين كان الجد و الجدة أيضا وارثين، و في كلّ مورد لا

______________________________

(1) راجع الوسائل 26: 36 باب 10 من أبواب موانع الإرث فمن جملة ما ورد في ذلك الباب رواية عبد اللّه بن سنان قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: قضى أمير المؤمنين عليه السّلام: أن الدية يرثها الورثة إلّا الأخوة و الأخوات من الأمّ فإنّهم لا يرثون من الدية شيئا».

(2) شرائع الإسلام 4: 8.

(3) راجع الوسائل 26: 164 باب 6 من أبواب ميراث الأخوة و الأجداد فقد روى عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن أخ لأب و جدّ قال: «المال بينهما سواء» و روى بريد بن معاوية عن أحدهما عليهما السّلام: «أن الجدّة مع الأخوة من الأب مثل واحد من الأخوة».

محاضرات في المواريث، ص: 232

يكون كذلك لا يكون كذلك فحكمهما حكم واحد.

و أمّا بالنسبة إلى الخال فإذا كان الأخ و الأخت من الأمّ لا يرثان فالمنتسب بهما بطريق أولى، الخال إنّما ينتسب إلى الميت من جهة أنّه أخ أمّه، فإذا كان الأخ بلا واسطة لا يرث فكيف يرث من كان مع الواسطة فهو بطريق أولى لا يرث.

يعني بمناسبة الحكم و الموضوع نقول: أن الحكم لا يختص بخصوص الأخوة و الأخوات، بل هو عامّ لكلّ من يتقرب بالأمّ سواء كان خالا أو خالة، أو جدّا أو جدّة من طرف الأم كلّ هؤلاء لا يرثون.

إذا فالإرث مختص بالمتقربين بالأب أو بالأبوين، و أمّا خصوص المتقربين بالأمّ فليس لهم إرث من الدية.

هل يجب على الولي أن يسقط حقه من القصاص ليفي الديون من الدية؟

ثمّ إنّه تقدّم الكلام

في أن المقتول إذا كان مدينا و فرضنا أن الولي عفا عن القصاص و رضي بالدية، فالدين يخرج من أصل ماله و من الدية أيضا، و كذلك وصاياه، و أنّه ليس للولي أن يتنازل عن الدية عند وجود دين على ذمّة المقتول، فإذا عفى عن الدية كان ضامنا للغرماء.

و الكلام هنا فيما إذا كان مدينا و قتل ظلما فهل يجب على الولي أن يسقط حقّه من القصاص، و أن يتراضى مع القاتل على الدية ليؤدي دين الميت منها أم لا يجب عليه ذلك و له حقّ القصاص؟

محاضرات في المواريث، ص: 233

قيل بالوجوب نظرا إلى أن الميت مدين فيجب تفريغ ذمته مع الإمكان، إذ أنّه يمكن للولي أن يسقط حقّه من القصاص و يرضى بالدية فيفي الدين منها.

و لكنه لا دليل على ذلك إنّما يجب أداء دين الميت بما يملكه فعلا، و لا يجب تحصيل المال للميت لأداء دينه.

الولي يسقط حقّه من القصاص و يرضى بالدية ليحصل المال للميت فيفي دينه يحتاج إلى دليل يقيّد إطلاق قوله سبحانه وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً «1» إطلاقه شامل لما إذا كان الميت مدينا و ما إذا لم يكن مدينا و كذلك الروايات.

فالظاهر هو جواز القصاص و عدم وجوب التنازل عن حقّه و قبول الدية.

______________________________

(1) الأسراء: 33.

محاضرات في المواريث، ص: 234

الكلام في القتل المجازي فهل يلحق بالقتل الحقيقي فيكون مانعا من الإرث؟ أم أنّه لا يمنع من الإرث؟

ذكرنا أن من موانع الإرث القتل العمدي إذا كان ظلما و عدوانا، و أمّا الخطئي ففيه كلام تقدّم.

و هذا يختص بما إذا صدق عليه القاتل صدقا حقيقيا بلا عناية.

و أمّا إذا صدق عليه القاتل مجازا لا حقيقة فلا يمنع ذلك من الإرث و إن كان الفعل محرما و معاقبا عليه، بل يكون عليه

جزاء أيضا.

فإذا فرضنا أن الإنسان قتل غيره بالمباشرة بذبح أو خنق أو إلقاء من شاهق و غير ذلك من أسباب القتل، فهو قاتل حقيقة.

و كذلك إذا قتله بالتسبيب، كما إذا كتّف يديه و ألقاه إلى السباع فافترسته فهو قاتل حقيقة، لأنّ السباع ليس لهن اختيار و عقل فهو القاتل، و كذلك فيما إذا أمر صبيا غير مميّز بأن أعطاه سكينا و أمره بذبح شخص آخر أو بشقّ بطنه ففعل الطفل ذلك فالآمر هو القاتل حقيقة، لأن الصبي كالآلة، فالنسبة حقيقة بلا مجاز إلى الآمر، و كذا إذا أمر المجنون أو أغرى الحيوان كما إذا أغرى الكلب بأن يفترس

محاضرات في المواريث، ص: 235

أحدا فقتله، القتل ينسب إليه لا محالة، فإن الحيوان أو الصبي غير المميّز أو المجنون لا إرادة لهم حقيقة، و الفعل فعل الآمر. ففي مثل هذه الصور يكون ممنوعا من الإرث لأنّه قاتل حقيقة و القاتل لا يرث.

و أمّا إذا صدر القتل من فاعل مختار غير هذا الشخص و إنّما هو أمره به، أمر شخصا ليقتل زيدا، فقال: أقتله، فامتثل المأمور فقتله، فالقتل و إن كان ينسب إلى الآمر فيقال: إن الآمر قتله كما هو الحال في السلاطين و غيرهم من الآمرين ينسب القتل إليهم و لكن النسبة مجازية. المباشر للقتل شخص آخر و هذا آمر، ففي مثل ذلك لا يكون ممنوعا من الإرث لأنّه ليس بقاتل حقيقة.

فلو فرضنا أن الابن أمر شخصا بقتل والده فقتله لا مانع من إرث الابن لأنّه ليس بقاتل حقيقة، و إنّما القاتل هو المباشر، و القتل المجازي ليس موضوعا للحكم.

نعم هو مؤاخذ بذلك لأن التسبيب إلى قتل الغير محرم لا محالة و حكمه- كما نطقت به

الروايات المعتبرة «1»- أن الآمر يحبس إلى أن يموت فحكمه الحبس الأبدي، و إلّا فليس بممنوع عن الإرث لأنّه ليس بقاتل حقيقة.

نعم هناك رواية معتبرة «2» و قد عمل بها جماعة و لا مانع من العمل بها أن المولى و العبد مستثنى من ذلك، فلو فرضنا أن المولى أمر عبده بقتل أحد فقتله العبد يكون القاتل هو المولى الآمر، و إن كان العبد عاقلا مختارا ثبت هذا بتعبّد شرعي

______________________________

(1) راجع الوسائل 29: 45 باب 13 من أبواب قصاص النفس، ح 1، فقد روى زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في رجل أمر رجلا بقتل رجل [فقتله] فقال: «يقتل به الذي قتله، و يحبس الآمر بقتله في الحبس حتّى يموت».

(2) الوسائل 29: 47 باب 14 من أبواب قصاص النفس، ح 1. روى إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل أمر عبده أن يقتل رجلا فقتله قال: فقال: «يقتل السيّد به».

محاضرات في المواريث، ص: 236

ففي هذه الرواية قال عليه السّلام: «إنّ العبد بمنزلة السيف و السوط فهو آلة للمولى فكأنّه قتله بسيفه».

و لا مانع من العمل بهذه الرواية في موردها فنستثني من الآمر هذه الصورة، فإذا كان الآمر هو المولى يكون القاتل حقيقة هو المولى، فيقتص منه و يمنع من الإرث أيضا.

و لكن المشهور لم يفرقوا بين المولى و غيره، و قالوا بأن الآمر لا يقتص منه لأنّه ليس بقاتل حقيقة، و إنّما القاتل هو المأمور، و تمام الكلام في محلّه.

محاضرات في المواريث، ص: 237

الكلام في حقّ القصاص و التحقيق في من هو ولي الدم

أمّا الكلام في حقّ القصاص:

فلولي المقتول أن يقتصّ من القاتل فيقتله، و له أن يرضى بالدية- و لكن مع رضى القاتل- و له أن يعفو

عن القصاص و الدية معا، فهو حقّ له.

فلو فرضنا أنّه عفى بشرط المال و لكن الجاني لم يقبل بدفع المال، فلا يسقط حقّ القصاص، و لا تجب الدية:

أمّا أنّه لم يسقط القصاص فواضح، فإنّه عفى بشرط المال، و الجاني لم يعط المال.

و أمّا أنّه لا تجب الدية لأنّ الدية إنّما تجب بالتراضي و إذا لم يرض الجاني فالدية لا تثبت.

فإذا فرضنا أن المقتول ظلما لا وارث مسلم له إلّا الإمام فالولي إذا كان غير مسلم الإمام يعرض عليه الإسلام فإن قبل فهو الولي، و إن لم يقبل فالولي هو الإمام.

و في فرض كون الإمام هو الولي فليس له أن يعفو مجّانا بل إمّا أن يقتص و إمّا أن يأخذ الدية فتكون الدية لبيت مال المسلمين، و يدلّنا على ذلك صحيحة أبي

محاضرات في المواريث، ص: 238

ولّاد الحنّاط «1» ففي هذه الصحيحة صرّح بأن الإمام مخيّر بين أمرين: بين أن يقتله قصاصا، و بين أن يأخذ الدية منه و يضعها في بيت مال المسلمين، لأن جنايته على بيت مال المسلمين، فلو فرضنا أنّه كان جانيا و لم يكن له مال فيجب على الإمام أن يؤدي من بيت مال المسلمين، فكما أن جنايته في بيت المال ديته أيضا توضع في بيت المال، و ليس للإمام العفو مجانا بلا دية.

فهذه الصحيحة واضحة الدلالة على الحكم، و الظاهر أنّه لا إشكال في المسألة، و أن الإمام ليس حاله حال الولي، الولي إنّما يأخذ الدية لنفسه لا للمسلمين، فله أن يعفو بلا مال، و أمّا الإمام فليس له أن يعفو بلا مال، بل إمّا أن يقتصّ، و إمّا أن يأخذ الدية فيضعها في بيت المال فليس له العفو مجانا.

التحقيق في من هو ولي الدم:

ثمّ إن حقّ القصاص هو حقّ لكلّ من هو ولي للميت يثبت لجميعهم و لكلّ واحد منهم، فلو فرضنا أن أحد الورثة عفى لا يسقط حقّ الباقين في القصاص.

و هذه المسألة محل خلاف شديد بينهم، فقد قال بكلّ من القولين جماعة كثيرون، و ادعيت الشهرة على كلّ من القولين، بل ادعي الإجماع على ذلك.

______________________________

(1) الوسائل 29: 124 باب 60 من أبواب القصاص في النفس، ح 1. عن أبي ولّاد الحناط قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل مسلم قتل رجلا مسلما [عمدا] فلم يكن للمقتول أولياء من المسلمين إلّا أولياء من أهل الذمة من قرابته، فقال: «على الإمام أن يعرض على قرابته من أهل بيته [دينه] الإسلام، فمن أسلم منهم فهو وليّه يدفع القاتل إليه فإن شاء قتل و إن شاء عفى، و إن شاء أخذ الدية، فإن لم يسلم أحد كان الإمام ولي أمره، فإن شاء قتل، و إن شاء أخذ الدية فجعلها في بيت مال المسلمين لأنّ جناية المقتول كانت على الإمام فكذلك تكون ديته لإمام المسلمين»، قلت: فإن عفى عنه الإمام قال: فقال: «إنّما هو حقّ جميع المسلمين و إنّما على الإمام أن يقتل أو يأخذ الدية، و ليس له أن يعفو».

محاضرات في المواريث، ص: 239

فالوجه الأوّل: هو أن إسقاط البعض حقّه من القصاص لا يوجب سقوطه بالنسبة إلى الآخرين.

و الوجه الثاني: هو السقوط بإسقاط البعض.

و كيف ما كان فلكلّ من القولين قائل:

و قد ذهب إلى القول الأوّل الشيخ قدّس سرّه و جماعة من المتقدّمين و المتأخرين.

و ذهب إلى القول الثاني العلّامة و الشهيدان و جماعة اخرى كالأردبيلي و الفاضل المقداد و غيرهما كالكاشاني.

________________________________________

خويى، سيد ابو القاسم موسوى، محاضرات

في المواريث، در يك جلد، مؤسسة السبطين (عليهما السلام) العالمية، قم - ايران، اول، 1424 ه ق

محاضرات في المواريث؛ ص: 239

و عليه فالمتبع هو الدليل:

أمّا بالنسبة إلى الآية المباركة وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلٰا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ «1».

هذه الآية المباركة محتملاتها ثلاثة:

1- أن يكون المراد بالولي هو مجموع الوارث، يعني جعلنا لمجموع الورثة الذين يرثون المال جعلنا لهم سلطانا، فيكون حقّ القصاص قائما بالمجموع، كما أن حقّ الخيار فيما إذا مات المورث يكون قائما بالمجموع، زيد باع داره لعمرو مع الخيار و مات، طبعا ينتقل حقّ الخيار إلى الوارث، و هكذا حقّ الشفعة و غيره من الحقوق.

فيكون هذا الحقّ قائما بمجموع الوارث، و يكون المجموع قائمين مقام الميت.

هذا احتمال من الاحتمالات في حقّ القصاص.

2- و يحتمل أن يكون المراد بالولي هو الجامع لطبيعي الولي بما هو طبيعي، كما

______________________________

(1) الأسراء: 33.

محاضرات في المواريث، ص: 240

في ملك الخمس و الزكاة- على ما تقدّم- و قلنا إن المالك هو طبيعي الفقير أو طبيعي السيّد مثلا لا المجموع و لا كلّ واحد منهم.

3- و يحتمل أن يكون المراد هو الطبيعي على نحو الانحلال، يعني أن يكون المراد كلّ واحد منهم فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ أي كلّ من صدق عليه أنّه ولي الميت و وارث الميت فقد جعلنا له سلطانا، فالحقّ قائم بكل واحد واحد منهم بلا توقّف على ثبوته للآخر يعني لا يتوقف ثبوت الحقّ لهذا على ثبوته للآخر، بل كلّ واحد منهم ولي و له حقّ القصاص.

الظاهر من الآية المباركة هو المحتمل الأخير، لأن الحكم طبعا ينحل بانحلال موضوعه وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً كلّ من يصدق عليه أنّه

ولي للميت و وارث للميت فقد جعلنا له سلطانا فكلّ فرد من أفراد الموضوع يكون هذا الحكم ثابتا له.

و أمّا احتمال أن يكون المراد بالولي هو الطبيعي و أن يكون إسقاط واحد منهم موجبا لسقوط حقّ الجميع، أو أن يكون ثابتا للمجموع بما هو مجموع أيضا يكون إسقاط واحد منهم موجبا لسقوط حقّ الجميع، لأنّ الحقّ واحد و ثابت للمجموع، فإذا فرضنا أنّ أحد الورثة أسقط حقّه يسقط حقّ الباقين لا محالة.

هذا بعيد في نفسه و مناف لحكمة جعل القصاص، فإن جعل القصاص إنّما هو من جهة حفظ الحياة وَ لَكُمْ فِي الْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ يٰا أُولِي الْأَلْبٰابِ «1».

إذا فرضنا أنّه قائم بالمجموع أو أنّه قائم بالطبيعي فللقاتل أن يتوصّل إلى دفع القصاص عن نفسه بإغراء بعض الورثة و إرضائهم بإعطاء مال أو بغير مال فيعفو

______________________________

(1) البقرة: 179.

محاضرات في المواريث، ص: 241

هذا الواحد فيسقط حقّ القصاص، و هذا بعيد عن حكمة جعل القصاص، فالظاهر من الآية المباركة أنّ الحقّ مجعول لكلّ واحد، و لا يقاس ذلك بالخيار و غير الخيار من الحقوق الموروثة، فإن الخيار واحد كان قائما بواحد فينتقل إلى المجموع لا محالة لا لكلّ واحد، إذ لم يكن المجعول خيارات متعدّدة، بل كان خيارا واحدا قائما بالميت و بموته انتقل إلى ورثته فبطبيعة الحال يكون قائما بالمجموع.

و في المقام السلطة مجعولة ابتداء للولي فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً و ليس منتقلا من الميت، بل هو مجعول من قبل اللّه سبحانه و موضوعه هو الولي فينحل لا محالة.

هذا ما يقتضيه ظاهر الآية المباركة.

و يدل على ذلك صريحا صحيحة أبي ولّاد الحنّاط «1» دلّت على أنّ إسقاط الحقّ من البعض لا يوجب السقوط من الآخرين،

ففي هذه الصحيحة يسأل الإمام عن رجل قتل و له أب و ابن و أمّ، الأب عفى و أسقط حقّه، و الأمّ تطالب بالدية، و الولد يريد القصاص، فقال عليه السّلام: للابن أن يقتل قاتل أبيه و لكن يؤدي الدية إلى الأمّ بمقدار ما تستحقه و هو السدس، فإن الأمّ لم تسقط حقّها و إنّما تطالب بالدية فتعطى حقّها، و كذلك الأب حيث أنّه أسقط حقّه لا يعطى الدية، و لكن تعطى الدية إلى ورثة الجاني فإن المفروض أن حقّ الأب قد سقط.

فحقّ القصاص لم يسقط بإسقاط الأب حقّه عن الجاني و للابن أن يقتص

______________________________

(1) الوسائل 29: 113 باب 52 من أبواب القصاص في النفس، عن أبي ولّاد الحنّاط قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قتل و له أمّ و أب و ابن فقال الابن: أنا أريد أن أقتل قاتل أبي، و قال الأب: أنا أريد أن أعفو، و قالت الأمّ: أنا أريد أن آخذ الدية قال: فقال عليه السّلام: «فليعط الابن أمّ المقتول السدس من الدية، و يعطي ورثة القاتل السدس من الدية حقّ الأب الذي عفى، و ليقتله».

محاضرات في المواريث، ص: 242

و لكن بشرط إعطاء الدية مقدار حصّة الأب لورثة الجاني لأنّه عفى عنه.

فهذه الصحيحة صريحة في أنّ إسقاط البعض حقّه لا يوجب سقوط حقوق الآخرين، و لكن الآخر إذا أعمل حقّه و اقتص لا بدّ له من إعطاء الدية بمقدار ما عفي عنه فإنّه لا يستحق ذلك.

هذا ما يستفاد من هذه الصحيحة.

و بإزاء هذه الصحيحة عدّة روايات قد دلّت على السقوط صريحا «1» و أنّه إذا اسقط بعض الورثة يسقط حقّ الآخرين أيضا.

إلّا أنّ هذه الروايات المعارضة

لصحيحة أبي ولّاد بما أنّها موافقة للعامّة فتحمل على التقية.

فما ذهب إليه الشيخ و جماعة من المتقدّمين و المتأخّرين من أنّ حقّ القصاص ثابت لكلّ واحد، و أنّ عفو البعض لا يوجب سقوط حقّ الآخرين هذا هو الصحيح، لموافقته لظاهر القرآن الكريم، و الروايات المعارضة موافقة للعامّة فتحمل على التقية.

ثمّ إن محل كلامنا إنّما هو فيما إذا ثبت حقّ القصاص للولي ابتداء كما إذا قتل رجل و له أولاد متعدّدون فلكلّ واحد منهم حقّ القصاص من قاتل أبيه على ما تقدّم.

و أمّا إذا كان الحقّ مجعولا للميت و انتقل بالإرث إلى الوارث كما إذا فرضنا أن

______________________________

(1) راجع الوسائل 29: 115 باب 54 من أبواب القصاص في النفس، ح 1 ففي حديث عبد الرحمن قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجلان قتلا رجلا عمدا و له وليّان، فعفى أحد الوليّين، قال: فقال عليه السّلام: «إذا عفى بعض الأولياء درئ عنهما القتل و طرح عنهما من الدية بقدر حصّة من عفى ..».

محاضرات في المواريث، ص: 243

الأب قد قطعت يده ظلما فله حقّ القصاص و قبل أن يقتص مات بسبب آخر- كما إذا سقط من شاهق مثلا أو غرق في البحر أو غير ذلك- لا بالسراية، بعد الموت طبعا ينتقل هذا الحقّ إلى ورثته، ففي هذا الفرض لا يكون الحقّ ثابتا لكلّ واحد واحد منهم لأنّ الحقّ واحد فيكون قائما بالمجموع- كما في الخيار.

فما ذكرناه من الانحلال و أن الحقّ يكون ثابتا لكلّ واحد إنّما هو فيما إذا كان الحقّ مجعولا لهم ابتداء، أمّا إذا كان بالإرث فيكون قائما بالمجموع، لأن حقّ القصاص واحد للميت و هذا الواحد لا يمكن أن يكون لعدّة أشخاص على نحو

الاستقلال فلا محالة يكون قائما بالمجموع، فإذا أسقطه واحد يسقط حقّ الجميع.

كما أنّه لا يجوز لأحدهم الاقتصاص بدون إذن الآخرين لأن الحقّ واحد مجعول للمجموع.

ثمّ إنّه إذا سقط حقّ القصاص بإسقاط البعض فإنّه لا يسقط حقّهم من الدية فلهم المطالبة بالدية من الجاني فإنّ دم المسلم لا يذهب هدرا.

محاضرات في المواريث، ص: 244

الكلام في قتل مهدور الدم شرعا

لا إشكال في أنّه في بعض الموارد يجوز القتل بدون حاجة إلى مراجعة الحاكم الشرعي فقد استثنيت عدّة موارد:

منها: سبّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من سمع أحدا يسبّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاز له قتله.

و منها: الدفاع عن النفس أو العرض أو المال فيجوز القتل دفاعا عن هذه الثلاثة.

ففي هذه الموارد و غيرها ممّا يكون القتل فيها سائغا لا يترتب على القتل قصاص و لا دية و لا كفّارة.

ففي بعض روايات الدفاع عن المال قال الإمام عليه السّلام: «أقتله و عليّ ضمانه» «1» و هذا لا إشكال فيه و لا كلام.

إنّما الكلام فيما إذا كان الشخص مهدور الدم و لكن لا بالنسبة إلى القاتل، بل هو في نفسه حكمه القتل شرعا، كما في بعض موارد الزنا و في اللواط و نحوهما مما يكون الشخص حكمه القتل شرعا فهو مهدور الدم و للحاكم أن يقتله حدّا.

______________________________

(1) الوسائل 28: 384 باب 5 من أبواب الدفاع. فعن وهب عن جعفر عن أبيه عليه السّلام أنّه قال: «إذا دخل عليك رجل يريد أهلك و مالك فابدره بالضربة إن استطعت، فإن اللّص محارب للّه و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فما تبعك منه من شي ء فهو عليّ».

محاضرات في المواريث، ص: 245

ففي مثل هذه الموارد

إذا قتله شخص بغير إذن الحاكم كما إذا كان لائطا و حكمه القتل شرعا، فقتله بدون مراجعة الحاكم فهل يثبت القصاص في مثل هذه الصورة؟ أو الدية مع التراضي؟ أم أنّه لا دية و لا قصاص و لا كفّارة؟

ذهب جماعة إلى أنّه يعتبر في جواز القصاص أن يكون المقتول محقون الدم، و أمّا إذا كان مهدور الدم لسبب من الأسباب فليس فيه قصاص و لا دية و لا كفّارة.

استدلوا على ذلك برواية رواها الشيخ قدّس سرّه و كذلك الشيخ الصدوق قدّس سرّه: فالشيخ رواها بسنده عن أحمد بن النضر عن الحصين بن عمرو- و في نسخة الوسائل الحسين بن عمرو، و هذا غلط، بل هو الحصين بالصاد- عن يحيى بن سعيد بن المسيب عن أبيه- أو بلا واسطة أبيه على اختلاف: فرواها الشيخ عن سعيد بن المسيب عن أبيه، و الصدوق رواها عن سعيد بن المسيب من دون ذكر أبيه- أن ابن أبي الكشين رأى رجلا يزني بزوجته فقتله «1»، فرفع ذلك إلى معاوية فكتب معاوية إلى أبي موسى الأشعري أن يسأل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام عن حكم هذه المسألة، فلقي أبو موسى الأشعري أمير المؤمنين عليه السّلام فسأله فقال: «إن أقام بيّنة أربعة شهود على ما يدّعيه فهو، و إلّا دفع برمته» لا يقبل قوله أصلا فهو قاتل إذا لم تكن له حجّة شرعية.

استدلّوا بهذه الرواية على أن الزاني إذا قتل و أقيمت البيّنة على ذلك يسقط

______________________________

(1) الوسائل 29: 135 باب 69 من أبواب القصاص في النفس، ح 2. عن سعيد بن المسيب أن معاوية كتب إلى أبي موسى الأشعري: إن ابن أبي الجسرين وجد رجلا مع امرأته فقتله،

فاسأل لي عليّا عن هذا، قال أبو موسى الأشعري فلقيت عليّا عليه السّلام فسألته- إلى أن قال:- فقال: «أنا أبو الحسن إن جاء بأربعة يشهدون على ما شهد و إلّا دفع برمته».

محاضرات في المواريث، ص: 246

القصاص و الدية و الكفارة.

و استندوا إلى هذه الرواية أيضا في اعتبار أن يكون محقون الدم لثبوت حقّ القصاص، فإذا كان مهدور الدم- كما في الزاني بزوجته الذي هو مورد السؤال في هذه الرواية- فيسقط القصاص و الدية و الكفارة إن أقام أربعة شهود على ما يدعيه، و إلّا فيدفع برمته.

فالدفع برمته و إلغاء قوله مشروط بعدم إقامة البيّنة، و أمّا إذا أقام بيّنة فليس عليه أي شي ء.

هذه الرواية التي استدلوا بها على هذا الحكم ضعيفة سندا من جهات: إحدى الجهات أنّ (أحمد بن النضر) من معاصري الإمام الرضا عليه السّلام يروي عنه إبراهيم بن هاشم، و يروي عنه أبو عبد اللّه البرقي، بل يروي عنه أحمد بن أبي عبد اللّه أيضا فالرجل من أصحاب الإمام الرضا عليه السّلام كيف يمكن أن يروي عن الحصين بن عمرو الذي هو من أصحاب الإمام السجاد عليه السّلام؟

رواية أحمد بن النضر عن الحصين بن عمرو أمر غير ممكن عادة لبعد الطبقة، فالرواية مرسلة و غير قابلة للاعتماد عليها.

و قانيا: إن الحصين بن عمرو بنفسه لم يوثق فالرواية ضعيفة من هذه الجهة.

و ثالثا: يحيى بن سعيد بن المسيب أيضا لم يوثق و هو واقع في سندها إمّا أنّه يروي هو بنفسه كما في رواية الصدوق، أو أنّه يروي عن أبيه كما في رواية الشيخ.

فالرواية ضعيفة من جهات و لا يمكن الاعتماد عليها.

و روى هذه الرواية بعينها صاحب الجواهر «1» قدّس سرّه عن داود

بن فرقد و ذكر أن

______________________________

(1) الجواهر 41: 369، و ما بعدها.

محاضرات في المواريث، ص: 247

الرواية صحيحة سندا.

و هذا اشتباه من قلمه الشريف لم ترد رواية عن داود بن فرقد في هذا الموضوع، و هو موضوع كتاب معاوية.

نعم له رواية في قتل الرجل زوجته إذا رآها يزني بها أحد «1» و لكنّه أجنبي عن هذا الموضوع.

إذا الرواية منحصرة بهذه الرواية التي هي ضعيفة من جهات و غير قابلة للاعتماد عليها.

و مع التنزّل عن ذلك لو فرضنا أن الرواية كانت صحيحة و فرضنا أن داود بن فرقد له رواية في هذا الموضوع و السند صحيح فهي بحسب الدلالة قاصرة، فإن موردها خصوص قتل الرجل الزاني بزوجته إذا رآه، و هذه مسألة اخرى خارجة عن محل كلامنا.

فهذه المسألة محل خلاف أنّه هل يجوز للزوج إذا رأى أحدا يزني بزوجته أن يقتلهما، أو أن يقتل الزاني فقط؟

ذهب إلى ذلك جماعة و استدلّوا بعدّة روايات، و قد ناقشنا في ذلك في محله، و هو ليس محل كلامنا ثبت أم لم يثبت.

كلامنا في اعتبار كون المقتول مهدور الدم، فإذا كان زانيا أو لائطا فهو مهدور الدم هل يثبت القصاص بقتله؟ هذه هي الكبرى الكلّية التي نتكلّم فيها.

و مورد هذه الرواية خصوص الزوج الذي رأى رجلا يزني بزوجته، فلو قلنا نقتصر على موردها فنقول يجوز للزوج إذا رأى أحدا يزني بزوجته أن يقتله أو

______________________________

(1) الوسائل 28: 14 باب 2 من أبواب مقدّمات الحدود، ح 1.

محاضرات في المواريث، ص: 248

يقتلهما كما ذكره جماعة، و ذكر الشهيد قدّس سرّه «1» رواية مرسلة «2» تدلّ على جواز قتلهما معا فتلك مسألة خارجة عن محل كلامنا.

الّذي نحن فيه أنّه هل يثبت القصاص

أو الدية أو الكفّارة في من قتل من هو مهدور الدم لكن لا بالإضافة إلى القاتل، بل هو مهدور الدم في نفسه؟ كما إذا كان مرتدا فطريا، أو كان لائطا فهو مهدور الدم، و لكن ليس لكل أحد قتله، فإذا قتله من دون إذن الحاكم كان ظلما و عدوانا فيدخل تحت قوله تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً.

فلا ملازمة بين كون الشخص مهدور الدم و جواز قتله بالنسبة إلى كلّ أحد، فجواز القتل إنّما ثبت للحاكم و لولي الأمر، لا أنّه يجوز لكلّ أحد قتل ذلك.

فليس هنا دليل ينفي القصاص أو الدية أو الكفارة عن القاتل في مثل هذه الموارد.

______________________________

(1) الروضة البهية 9: 120 و ما بعدها.

(2) الوسائل 28: 149 باب 45 من أبواب حدّ الزنا ح 2 محمّد بن مكّي الشهيد في (الدروس) قال: روي أن من رأى زوجته تزني فله قتلهما.

محاضرات في المواريث، ص: 249

بقي الكلام في الاعتداء على الميت

فإنّ حال الميت حال الحي «حرمة المسلم ميتا كحرمته حيا» «1» فكما أن الجناية على الحي توجب الدية الجناية على الميت أيضا توجب الدية.

فلو فرضنا أنّه قطع رأس ميت بحيث لو كان حيا لمات بذلك تثبت فيه الدية كاملة، أو فرضنا أنّه شقّ بطنه أو غير ذلك مما يوجب القتل لو كان حيا فإنّه يوجب الدية الكاملة.

و لكن دية الميت تمتاز عن دية الحي فإن ديته دية الجنين يعني ماءة دينار كما في الجنين قبل ولوج الروح باعتبار أن الميت أيضا قد زهقت روحه فهما في حكم واحد على ما نطقت به الروايات «2».

و الفرق بين هذه الدية و دية الحي: أن دية الحي الذي يقتل تنتقل إلى الوارث بعد ديونه و وصاياه، و

أمّا هذه الدية فلا تنتقل إلى الورثة، بل بمقتضى النص الصريح تصرف في جهات الخير بالنسبة إلى الميت «3».

و هل تقضى منها ديونه؟

______________________________

(1) الوسائل 29: 325 و ما بعدها باب 24 من أبواب ديات الأعضاء، ح 2 و 4 و 5.

(2) الوسائل 29: 325 باب 24 من أبواب ديات الأعضاء، ح 1.

(3) الوسائل 29: 325 باب 24 من أبواب ديات الأعضاء، ح 2.

محاضرات في المواريث، ص: 250

استشكل بعضهم في ذلك باعتبار أن إخراج الديون إنّما كان واردا في دية الحي، و لم يرد مثل ذلك في دية الميت ففيه إشكال.

لكن الظاهر أنّه لا مجال للإشكال، لأن هذه الدية تصرف في وجوه البر بالنسبة إلى الميت، و أي وجه أبرّ من تفريغ ذمته و أداء ديونه؟! فكما يمكن أن يصلّى و يصام عنه، أو يزار أو يقرأ القرآن أو يحجّ عنه و غير ذلك من القرب، فإن تفريغ ذمته من الدين أولى من جميع ذلك، و لا سيما أن في بعض هذه الروايات إن هذه الدية إنّما هي للميت خاصة ملكه، فإذا كانت ملكه لا بدّ من أداء دينه منها.

فالإشكال في أداء الدين- كما عن بعضهم- لا نعرف له وجها صحيحا.

نعم لم يرد فيه نصّ خاصّ، إلّا أنّه ورد أن هذه الدية تصرف في وجوه البرّ بالنسبة إلى الميت، و أداء الدين من وجوه البرّ أيضا بلا إشكال.

محاضرات في المواريث، ص: 251

المانع الثالث الرّق

اشاره

من جملة موانع الإرث (الرقيّة) فإن العبد لا يرث و لا يورث.

و جعل هذا من الموانع مبني على أن يكون العبد مالكا- كما اخترناه و قلنا إن العبد يكون مالكا- و إن كان ملكه في طول ملك المولى يعني أن المولى يملكه

و يملك ما يملكه.

و قد استدللنا على ذلك بعدّة روايات:

منها: ما دل على أنّه لا زكاة في مال المملوك «1»، فقد فرض أن للمملوك مالا و أنّه لا تتعلّق به الزكاة، كما أنّ مال الصبي و المجنون لا تتعلّق بهما الزكاة.

و أمّا بناء على عدم ملكية العبد فعدم الإرث لعدم المقتضي لا لوجود المانع، كيف نقول بانتقال إرثه إلى وارثه مع فرض أنّه لا مال له؟

و كذلك إذا كان العبد وارثا فهو ليس قابلا للتملّك لينتقل إليه المال، و سيّده ليس بوارث لينتقل إلى السيّد فعدم الإرث إنّما هو لعدم المقتضي لا لوجود المانع.

فكيف ما كان فالروايات متضافرة و عدّة منها صحيحة قد دلّت على أن العبد

______________________________

(1) راجع الوسائل 9: 91 باب 4 من أبواب من تجب عليه الزكاة و من لا تجب عليه، ح 1. عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ليس في مال المملوك شي ء و لو كان له ألف ألف، و لو احتاج لم يعط من الزكاة شيئا».

محاضرات في المواريث، ص: 252

لا يرث «1»، فإذا مات عبد يكون إرثه لمولاه و لا يرثه الحر، و إذا مات حر و له وارث عبد لا يرثه العبد بل يرثه الحر إن وجد و لو فرضنا أنّ الحر في طبقة متأخّرة عن الوارث العبد، كما إذا فرضنا أنّه مات حر و كان له ابن عبد و لابنه ابن حر يرثه ابن الابن و لا يرثه الابن كما هو مفروض هذه الروايات، فالعبد لا يرث و لا يحجب من هو متأخر عنه.

و هذا لا إشكال فيه و الروايات فيه متضافرة.

و أيضا يجري هنا- في الرقيّة- ما تكلّمنا فيه

في الكفر، فإن العبد إذا أعتق قبل القسمة و كان وارثا يشترك معهم إذا كان في طبقتهم، و يتقدّم عليهم إذا كان في الطبقة المتقدّمة عليهم، فلو فرضنا أن للميت ابن عبد و ليس له ابن آخر، و للابن أولاد أحرار، أو لابنه الآخر أولاد، فالورثة أبناء الابن و ليس للابن شي ء، فإذا أعتق قبل قسمة المال بما أنّه متقدّم عليهم في الطبقة يختص به المال و يحجبهم، و إذا كان في طبقتهم يشترك معهم.

الروايات هنا متضافرة أيضا كما هو الحال في الكفر فحال الرقيّة حال الكفر من هذه الجهة.

نعم إذا فرضنا أن الوارث واحد و ليس بمتعدّد فلا موضوع للقسمة بمجرد الموت ينتقل المال إلى الوارث الحر، فلا أثر لعتقه بعد ذلك.

فموضوع الحكم العتق قبل القسمة، فإذا لم يكن موضوع للقسمة فلا يجري هذا الحكم و يكون المال لذلك الوارث حتّى لو فرضنا أنّ الوارث الإمام عليه السّلام ليس له

______________________________

(1) راجع الوسائل 26: 43 الباب 16 من أبواب موانع الإرث، ح 1. عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: «لا يتوارث الحر و المملوك».

محاضرات في المواريث، ص: 253

وارث إلّا الإمام و قد فرضنا أنّه مات و انتقل ماله إلى الإمام فلا أثر لانعتاق الوارث بعد ذلك.

نعم لو فرضنا أنّ الوارث زوجة فهي لا ترث تمام المال- كما تقدّم- بل ترث الربع لعدم الولد، و يكون الباقي للإمام عليه السّلام حينئذ يجري ما ذكرناه: إن قسّم المال فانعتق لا أثر لانعتاقه بعد القسمة، و إذا كان انعتاقه قبل القسمة فيرث و لا ينتقل إلى الإمام.

تقدّم الكلام فيه عند الكلام في الكفر و الحال في الرق هو الحال في الكفر، و الروايات

واضحة الدلالة على ذلك.

ثمّ إن هناك مسألة اخرى هي أن الوارث إذا كان منحصرا بالعبد و لم يكن للميت وارث غيره، و كان المال وافيا لشرائه فالمال بمقدار قيمته أو أكثر، ففي هذه الصورة لا ينتقل المال إلى الإمام عليه السّلام بل لا بدّ من شرائه و يعتق بعد ذلك بناء على الاحتياط، و إلّا فلا دليل على لزوم العتق، بل ينعتق بنفسه بالشراء، و يرد إليه بقيّة المال.

و لا فرق بين أن يكون الوارث واحدا أو متعددا فلو فرضنا أنّه مات الميت و له ولدان و كلاهما رقّ و المال يفي بشرائهما فلا بدّ من شرائهما، يجبر المالك على البيع، فإن زاد شي ء من المال يعطى الزائد لهما.

و هذا أيضا لا إشكال فيه و الروايات متضافرة.

إلّا أنّه يقع الكلام في أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ هذا الوارث هل يشترط أن يكون قريبا للميت بأن يكون من

محاضرات في المواريث، ص: 254

أحد الطبقات الثلاث؟ أم أنّه يجري ذلك حتّى في ضامن الجريرة، عبد ضمن جريرة أحد بإذن مولاه، فهل يجب شراء هذا العبد و عتقه و إعطاء باقي المال له؟ أم أنّه يختص هذا الحكم بما إذا كان قريبا للميت؟

لم يتعرّض صاحب الجواهر قدّس سرّه لهذه المسألة، و لكن ذكر في كلامه أنّه لا فرق في الوارث المنحصر بين القريب و غير القريب حتّى ضامن الجريرة على إشكال يأتي «1».

الظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في شمول هذا الحكم حتّى لغير القريب كضامن الجريرة فلا بدّ من شرائه و إعطاء بقيّة المال له و لا تصل النوبة إلى الإمام، فإن الروايات الواردة في المقام و إن كانت أكثرها لا تشمل هذه الصورة، فإن موردها أن للميت أمّا أو أخا أو أختا

أو عصبة «2»- كما في بعض الروايات- فمثل ضامن الجريرة غير داخل في هذه الروايات، إلّا أنّ معتبرة إسحاق بن عمّار أنّه كان لعلي بن الحسين عليه السّلام مولى فمات فقال: أطلبوا له وارثا فطلبوا فوجدوا له بنتين و لكنّهما أمتان فأمر عليه السّلام بشرائهما و أعطاهما بقية المال «3».

هذه الرواية بحسب السند رواها الشيخ قدّس سرّه بعدة طرق كلّها ضعاف، و لكن الصدوق قدّس سرّه رواها بسنده عن حنان بن سدير عن ابن أبي يعفور عن إسحاق بن عمار، و طريق الصدوق إلى حنان بن سدير صحيح، فالرواية صحيحة على طريق الصدوق.

______________________________

(1) الجواهر 39: 50.

(2) راجع الوسائل 26: 49 و ما بعدها باب 20 من أبواب موانع الإرث.

(3) الوسائل 26: 52 باب 20 من أبواب موانع الإرث، ح 8، و 26: 240 باب 2 من أبواب ميراث ولاء العتق، ح 1.

محاضرات في المواريث، ص: 255

و قوله عليه السّلام: أطلبوا له وارثا ظاهره مطلق الوارث فالحكم ثابت لطبيعي الوارث، و لا خصوصية للأمّ أو الأخت أو البنت، و إن كان في مورد الرواية وجدوا له بنتين، إلّا أن الإمام عليه السّلام ذكر بعنوان الكبرى الكلية اطلبوا له وارثا فإطلاق هذا الكلام يشمل ما إذا كان الوارث ضامن جريرة أيضا، فلو فرضنا أنّ الميّت ليس له وارث إلّا ضامن جريرته مقتضاه أنّه يشتري فيعتق و يعطى باقي المال، فلا خصوصية للأمثلة المذكورة في الروايات من الأخ و الأخت و الأم و غير ذلك. هذه جهة من الكلام.

الجهة الثانية: أنّ هذا الحكم مختص بما إذا كان الوارث منحصرا به، و أمّا إذا كان هناك وارث آخر و هو حر فينتقل المال إلى ذلك الوارث الحر- كما

ذكرنا ذلك قريبا- فإذا فرضنا أن للميت وارثين أحدهما عبد و الآخر حر فينتقل المال إلى الحر.

فهذا الذي ذكرناه من شراء الوارث و عتقه إنّما هو فيما إذا كان الوارث منحصرا به، فهل الانحصار يلاحظ بالنسبة إلى القريب يعني ليس للميت وارث قريب من طبقات الورّاث؟

أو أنّه لا يكون له وارث حتّى ضامن الجريرة؟

فلو فرضنا أن له وارثا و لكن ليس من طبقات القرابة بل هو ضامن جريرة حر، فهل يكون الإرث لضامن الجريرة باعتبار أنّه حر و مع وجود الحر يمنع العبد؟

أو أن العبرة بعدم وجود القريب الحر، و أمّا ضامن الجريرة فوجوده و عدمه سيّان؟

فيه كلام و إشكال: نسب إلى العلّامة قدّس سرّه و إلى غيره- كما في الجواهر «1»-

______________________________

(1) لم نجد في الجواهر نسبة هذا القول إلى العلّامة فهو سهو من سيدنا الأستاذ راجع الجواهر 39: 50 و ما بعدها.

محاضرات في المواريث، ص: 256

التصريح بعموم المنع يعني وجود الوارث الحر يمنع من إرث العبد حتّى إذا كان الوارث ضامن جريرة، فلا فرق بين القريب و غير القريب.

و لكن استشكل في ذلك صاحب الجواهر قدّس سرّه و قال لو لم يكن في المسألة إجماع فللنظر مجال.

الذي ينبغي أن يقال في المقام أن الروايات الواردة في المقام مطلقة بين ما إذا كان هناك ضامن جريرة و ما إذا لم يكن، يسأل من الإمام عليه السّلام عن امرأة نصرانية ماتت و لها ولد مسلم عبد- المفروض أنّه ليس لها وارث مسلم غيره و إن لم يذكر في الرواية- دلّت هذه الرواية و غيرها على أنّه يشترى العبد ثمّ يعتق ثمّ يعطى له بقية المال «1» مطلقة من حيث وجود ضامن جريرة و عدم وجوده،

فبالإطلاق تشمل حتّى وجود ضامن الجريرة.

المفروض أنّ لهذه النصرانية ابن مسلم حكم الإمام عليه السّلام بأنّه يشترى الابن و يعتق و يعطى له بقية المال كان هنا ضامن جريرة أم لم يكن فبالإطلاق تدل على أن وجود ضامن الجريرة لا يمنع من شراء الابن.

و أمّا وجود وارث آخر غير ضامن الجريرة فقد ثبت أن العبد لا يرث مع

______________________________

(1) لم نعثر على رواية بهذا المضمون الذي نقله سماحة السيّد الأستاذ، و لعله سهو منشأه الخلط بين الروايات، فالموجود في امرأة نصرانية تموت و لها ابن مسلم عبد ما رواه صاحب الوسائل في با بين من أبواب موانع الإرث الباب 1، 26: 16 ح 18 و الباب 2617: 45 ح 1، عن مهزم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في عبد مسلم و له أمّ نصرانية و للعبد ابن حر، قيل: أ رأيت إن ماتت أمّ العبد و تركت مالا؟ قال: «يرثها ابن ابنها الحر» و هذه الرواية ليست لها أي دلالة على مطلبه قدّس سرّه، و كان الأولى الاستدلال بما ورد في 26: 49 و ما بعدها الباب 20 من أبواب موانع الإرث فقد وردت هناك عدة روايات دالة على هذا المطلب منها الحديث الرابع فقد روي عن جميل بن دراج قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يموت و له ابن مملوك، قال: «يشترى و يعتق ثمّ يدفع إليه ما بقي».

محاضرات في المواريث، ص: 257

وجود وارث حر فيتمسّك بالإطلاق.

و ناقش في ذلك صاحب الجواهر قدّس سرّه «1» بأن هذه الإطلاقات معارضة بما دل على أن من لا وارث له فوارثه ضامن الجريرة «2» يعني إذا لم يكن وارث حر فالإرث لضامن الجريرة،

فإطلاق هذه الروايات يشمل ما إذا كان هناك وارث عبد يمكن شراؤه من مال الميت، و المعارضة بالعموم من وجه فلا يمكن التمسك بهذه الإطلاقات لإثبات هذا الحكم، و هو أن وجود ضامن الجريرة لا يمنع.

إلّا أنّه يرد على ما أفاده قدّس سرّه بأن المعارضة و إن كانت بالعموم من وجه إلّا أن إطلاقات الروايات المتقدّمة الدالة على إرث القريب حاكمة على إطلاق إرث ضامن الجريرة فتقدّم عليها حكومة لأنها رافعة لموضوعها، فإن الروايات الواردة في إرث ضامن الجريرة مقيّدة بعدم الوارث من الطبقات الثلاث «3»، و هذه الروايات تثبت وجود الوارث و أن العبد وارث، فيرتفع موضوع تلك الأدلة.

و مع قطع النظر عن ذلك يكفينا صحيح ابن سنان «4» فإنّه في الصحيح المذكور قيّد الحكم بأن لا يكون له ذو قرابة أو (ذووا قرابة)- على اختلاف النسخ- إذا كان له وارث عبد يشترى و يعتق و يعطى له بقية المال إذا لم يكن له ذو قرابة أو (ذووا

______________________________

(1) الجواهر 39: 50، و ما بعدها.

(2) راجع الوسائل 26: 244 باب 1 من أبواب ولاء ضامن الجريرة و الإمامة ففي ح 3 عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن مملوك اعتق سائبة قال: «يتولّى من شاء و على من تولاه جريرته و له ميراثه».

(3) راجع الوسائل 26: 246 و ما بعدها باب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة و الإمامة.

(4) الوسائل 26: 51 باب 20 من أبواب موانع الإرث ح 6 عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في الرجل يموت و له أمّ مملوكة و له مال أن تشترى

امّه من ماله ثمّ يدفع إليها بقية المال إذا لم يكن له ذووا قرابة لهم سهم في الكتاب».

محاضرات في المواريث، ص: 258

قرابة) يستفاد من هذه الصحيحة بوضوح أن موضوع الحكم عدم وجود قريب له، و وجود ضامن الجريرة و عدمه سيان من هذه الجهة.

إذا الصحيح أنّه يعتبر في إرث العبد أن لا يكون هناك قريب حر للميت، و أمّا وجود ضامن الجريرة فلا يضر، فلو كان هنا ضامن جريرة أيضا لا تصل النوبة إليه، بل يشترى العبد و يعتق.

و هذا هو الصحيح.

استدراك على ما تقدّم في الجهة الاولى:

تقدّم الكلام في أن الوارث إذا كان ضامن جريرة فهل يكون الحكم فيه كما في غيره من الورثة؟

يعني إذا كان ضامن الجريرة عبدا أيضا يشترى من مال الميت و يعتق و يعطى له بقية المال؟ أم أن هذا مختص بقرابة الميت من الطبقات الثلاث في الإرث؟

ظاهر كلام المشهور عدم الاختصاص بالقرابة، فإنّهم ذكروا أن الوارث إذا انحصر بالرق يشترى، فلا فرق بين ضامن الجريرة و غيره.

و لكن الروايات الواردة في المقام ليس في شي ء منها ذكر لضامن الجريرة، و إنّما هي واردة في قرابة الميت من أمّه و أبيه و أخيه و نحو ذلك، فالتعدي من القريب إلى غير القريب كضامن الجريرة يحتاج إلى دليل و إن كان ظاهر إطلاق كلماتهم هو الشمول.

قلنا ربّما يستدل على ذلك بمعتبرة إسحاق بن عمار، و قلنا إنّها رويت بعدة طرق و طريق الصدوق صحيح.

ففي هذه الرواية ذكر أنّه مات مولى لعلي بن الحسين عليه السّلام فأمر بأن يطلب له

محاضرات في المواريث، ص: 259

وارث ..

قلنا: إنّ إطلاق كلمة الوارث يعم ضامن الجريرة و غيره، فلا يختص الحكم بالأقارب «1».

و

لكن الظاهر عدم تمامية هذا الاستدلال من وجهين:

أمّا الوجه الأوّل: فإن كلمة وارث و إن كانت مطلقة فلم يفصّل فيها بين كون الوارث ضامن جريرة أو غير ضامن جريرة. ففي مورد الرواية أنّه كان له بنتان مملوكتان فأمر عليه السّلام بشرائهما و عتقهما و إعطائهما بقية المال.

فلو فرضنا أنّه لم يكن له وارث غير ضامن الجريرة و هو عبد فأي شي ء حكمه؟ لم يذكر في الرواية فهل يعطى له المال أو لا يعطى ليس في الرواية ذكر من ذلك. هذا أمر.

و ثانيا: مع قطع النظر عن ذلك الظاهر أنّ هذا المولى كان معتقا من قبل الإمام علي بن الحسين عليه السّلام و بطبيعة الحال عتق الإمام عتق تبرعي، إذ لا يتصور أن يكون العتق من قبل الإمام عليه السّلام كفّارة لإفطار عمدي أو لقتل عمدي أو خطئي و نحو ذلك كلّ ذلك لا يكون.

فالظاهر أن عتقه عليه السّلام كان عتقا تبرعيا، فإذا كان للإمام عليه السّلام ولاء العتق و معه لا تصل النوبة إلى ولاء ضمان الجريرة، فلو كان له ضامن جريرة حر فضلا عن العبد لم يكن وارثا، فالوارث هنا المقصود منه خصوص القريب بقرينة كون الإمام معتقا و له ولاء العتق، فقوله عليه السّلام: أطلبوا له وارثا أي أطلبوا له وارثا قريبا، إذ لو لم يكن له وارث قريب يكون إرثه لمولاه الذي أعتقه و هو الإمام عليه السّلام.

______________________________

(1) راجع ص 255 و ما بعدها من هذا البحث.

محاضرات في المواريث، ص: 260

فالاستدلال بهذه الرواية ساقط.

إذا يبقى الإشكال على حاله و الجزم مشكل، فإن اعتماد الفقهاء بإطلاقها يشمل ذلك، و لكن إتمامه بالدليل مشكل.

هذا ما أردنا استدراكه على ما ذكرناه في الجهة الاولى.

يبقى الكلام في جهات:

الجهة الاولى: هل هناك حاجة إلى العتق؟ أم أنّه بمجرّد الشراء ينعتق العبد، فإن كان للمال باق فيعطى له بلا حاجة إلى عتق؟

ذكر بعضهم أنه لا حاجة إلى العتق، فإن العتق لا يكون إلّا في ملك، فمن يكون مالك هذا العبد بعد الشراء حتّى يعتق من قبله؟

إلّا أن جملة من الروايات «1» صريحة الدلالة على لزوم العتق أنّه يشترى ثمّ يعتق ثمّ يعطى له باقي المال، فالتعبير بثم- كما ذكرنا- يدل على التراخي فلا بدّ من العتق.

و في بعض الروايات أن الإمام عليه السّلام هو اشترى كما في البنتين اشتراهما و أعتقهما و أعطاهما بقية المال.

فلا يمكن رفع اليد عن هذه الروايات الصريحة في لزوم العتق و أنّه لا بدّ منه.

و أمّا الإشكال في أنّه ملك من فالظاهر أنّه ملك للميت لما ذكرناه في باب البيع من أن البيع مبادلة بين المالين ينتقل كلّ مال إلى مكان المال الآخر من دون نظر إلى

______________________________

(1) راجع الوسائل 26: 49 باب 20 من أبواب موانع الإرث ففي ح 1 عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول في الرجل الحر يموت و له أمّ مملوكة قال: تشترى من مال ابنها ثمّ تعتق ثمّ يورّثها».

محاضرات في المواريث، ص: 261

المالك، فالتبديل إنّما هو بين المالين، فإذا كانت التركة بعد لم تنتقل إلى أحد و مات الميت و له مال فبطبيعة الحال يكون المال ملكا للميت و بالشراء يكون داخلا في ملك الميت و يعتق من مال الميت و هذا مما ليس فيه أي إشكال، كما يكون الميت مالكا لأصل المال يكون مالكا لبدله و هو العبد أو الامة، فهذا

المملوك يشترى بمال الميت فيكون داخلا في ملكه، ثمّ بعد ذلك يعتق.

بل يظهر من هذه الروايات أن الميت يكون مالكا لعموديه أو لمحارمه، مع أن هذا لا يجري في الحي فإن ملك العمودين غير ممكن في الحي فإنّه بمجرد الدخول في الملك ينعتق، فلا يملك الإنسان آباءه، أو أولاده، أو محارمه من النساء مثل الأخت أو العمّة أو الخالة و غيرهن ممّن تكون محرما عليه، فبمجرّد الملك ينعتق.

و أمّا في الميت فلا مانع من ذلك، فإذا مات و كانت إحدى محارمه مملوكة تشترى بمال الميت و بعد ذلك تعتق- كما هو مورد الروايات كان له بنتين- فعدم ملك العمودين و المحارم مختص بالحي، و أمّا بالنسبة إلى الميت فلا يجري فيه ذلك.

و هذا ممّا لا إشكال فيه، فرفع اليد عن هذه الروايات لا موجب له فلا بدّ من العتق بعد الشراء.

نعم يستثنى من ذلك صورة واحدة- كما ذكرها في الجواهر «1»- و هي ما إذا كان هذا العبد ملكا للميت، فرضنا أنّه مات و ليس له وارث غير هذا العبد الذي هو ملك له من جملة تركته، فإذا كان كذلك لا يبقى مجال للشراء، فوجوب الشراء و عدمه سيان، بل يعتق بلا شراء، و يكون المال له، يعني لا يتصور فيه الشراء لأنّه إنّما يشترى بمال الميت و هو بنفسه مال للميت قبل الشراء فلا حاجة إلى الشراء،

______________________________

(1) الجواهر 39: 52.

محاضرات في المواريث، ص: 262

فيعتق و يعطى له بقية المال.

الجهة الثانية: هل يجوز لمالك العبد أو الامة أن يطالب بقيمة أكثر من القيمة السوقية؟ أم أنّه ليس له ذلك بل لا بدّ من أن يبيعه بالقيمة السوقية؟

هذا أيضا وقع محلا للكلام: فذهب بعضهم إلى

أنّه له المطالبة بأكثر من القيمة السوقية.

و هذا أيضا لا يمكن المساعدة عليه، بل الظاهر أن له المطالبة بالقيمة السوقية بدون زيادة على ذلك.

و الوجه فيه أن المستفاد من الروايات أنّه إذا أبى عن البيع يقوّم عليه و يعطى القيمة «1»، يظهر من هذه الرواية بوضوح أن سلطنة المالك على ملكه قد سقطت من جهة موت مورثه و أنه أصبح في معرض العتق، فليس للمالك السلطنة على شخصه بما هو شخص، و إنّما هو مسلط على قيمته، فإن رضي بالبيع فبها، و إن لم يرض فيؤخذ منه العبد ببيع قهري، يقوّم العبد و يعطى له القيمة و ليس له أن يطالب بالزيادة، بل قد تكون التركة غير وافية بما يطلبه من الزيادة، كما إذا كانت التركة خمسين و القيمة السوقية أيضا خمسين، و لكن المولى يطلب ستّين فلا يمكن شراؤه بهذه القيمة، فيكون هذا داخلا في إباء المالك عن البيع، فقول الراوي فإن أبى، و أمره عليه السّلام باجباره يشمل مثل ذلك، فإن التركة وافية بالقيمة السوقية و ليس للمالك الامتناع و المطالبة بستّين.

______________________________

(1) الوسائل 26: 50 باب 20 من أبواب موانع الإرث ح 5، عن عبد اللّه بن طلحة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سألته عن رجل مات و ترك مالا كثيرا و ترك أمّا مملوكة و أختا مملوكة، قال: «تشتريان من مال الميت ثمّ تعتقان و تورّثان»، قلت: أ رأيت إن أبى أهل الجارية كيف يصنع؟ قال: «ليس لهم ذلك، يقوّمان قيمة عدل ثمّ يعطى مالهم على قدر القيمة ..».

محاضرات في المواريث، ص: 263

قد يستفاد هذا من بعض الروايات بوضوح، فإنّه ورد في بعض هذه الروايات يشترى بالقيمة، كلمة (ال) للتعريف

بأي قيمة يشترى؟ طبيعي القيمة لا تحتاج إلى الذكر فيقال: (إنّه يشترى) طبعا الشراء لا بدّ أن يكون بقيمة.

فقوله عليه السّلام: «يشترى بالقيمة» «1» يكون إشارة إلى القيمة الخارجية المعهودة و هي القيمة العادلة لهذا العبد أو لهذه الأمة، و هي القيمة السوقية.

إذا تدل هذه الرواية بوضوح على أن سلطنة المالك ساقطة عن ملكه إلّا من جهة القيمة فقط، فله أن يبيعه بالقيمة السوقية لا أكثر، فإن أبى عن ذلك و لم يرض بالقيمة السوقية يقوّم عليه و يعطى له القيمة السوقية، فيكون بيعا قهريا من دون حاجة إلى رضاه.

هذه الرواية واضحة الدلالة مع أنّه يفهم من غيرها أيضا فلو فرضنا أن التركة زائدة آلاف الدنانير و القيمة السوقية ماءة دينار فقط، فليس للمالك أن يطالب بأكثر من القيمة السوقية و هي ماءة دينار فقط، و أمّا بالنسبة إلى الزائد فليس له سلطنة أبدا.

الجهة الثالثة: يبقى الكلام فيما إذا كان الوارث المملوك أكثر من واحد كما ورد في رواية البنتين: أنّه مات مولى لعلي بن الحسين عليه السّلام «2»، أو لعلي عليه السّلام «3»- على اختلاف النسخ- فقال عليه السّلام: «أطلبوا له وارثا» فوجدوا له بنتين مملوكتين، فأمر عليه السّلام بشرائهما و عتقهما و إعطائهما بقية المال.

______________________________

(1) هذه العبارة لم ترد إلّا في الوسائل 26: 54 الحديث 12 من الباب 20 من أبواب موانع الإرث و أمّا الرواية التي في الهامش السابق فالعبارة فيها هكذا: «ثمّ يعطى مالهم على قدر القيمة».

(2) الوسائل 26: 52 الباب 20 من أبواب موانع الإرث، ح 8.

(3) التهذيب 9: 330 (1186) و (1187).

محاضرات في المواريث، ص: 264

فهذا الحكم و هو شراء العبد بتركة مورّثه أو شراء الأمة بتركة مورّثها

لا يختص بما إذا كان العبد واحدا أو الأمة واحدة، فإذا كانت التركة وافية بشرائهما معا لا ينبغي الشك، بل الظاهر أنّه لم يستشكل أحد أيضا في وجوب شرائهما و عتقهما و إن كانت قيمة إحداهما أكثر من قيمة الاخرى، كما إذا فرضناهما عبد و أمة و قيمة الأمة أكثر من قيمة العبد بمراتب لأنّها شابّة جميلة مثلا و العبد شيخ كبير لا يتمكّن من الخدمة فقيمته قليلة جدّا، أو في مثل البنتين الذي ورد في الرواية أن الإمام عليه السّلام اشتراهما و أعتقهما لم يرد في الرواية أنّ قيمتهما كانت متساوية، بل المساواة بعيدة جدا، و ذلك لأن الإماء تختلف قيمتهن لتفاوتهن في الجمال و في السن و القدرة على الخدمة، فمن جهة الكمالات الخارجية تتفاوت القيمة، فأمر الإمام عليه السّلام بشرائهما من دون ذكر لقيمة كلّ منهما بالنسبة إلى الاخرى، فشراؤهما إنّما هو من مال الميت و هو بعد لم ينتقل إليهما و قد دلّ النص على وجوب الشراء و العتق، و هذا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه، يعني أن العبد أو الأمة قبل أن يشترى و يعتق ليس له أي نصيب في هذا المال لأنّه ليس بحر فالمال مال الميت و يشترى للميت فيكون ملكا للميت، ثمّ يعتق و بعد العتق يكون له نصيب، فإن كان أحدهما ذكرا و الآخر انثى مثلا يعطى للذكر ضعف الانثى، و أمّا قبل العتق فليس لهما أي نصيب، فلا يفرق بين اختلاف القيمة و عدم اختلافها فإن كان المال وافيا بشرائهما يشترى كلاهما فيعتقان و بعد ذلك يعطى لهما الباقي إن كان هناك باق.

و أمّا إذا فرضنا أن المال لا يفي بشرائهما معا فلنفرض أنّ المال

ثمانون دينارا و قيمة كلّ منهما خمسون دينارا و هما أخوان مثلا، فهل يجب شراء أحدهما دون الآخر و يعيّن ذلك بالقرعة؟ أو أنه ينتقل المال إلى الإمام عليه السّلام- إن لم يكن للميت

محاضرات في المواريث، ص: 265

ضامن جريرة- و لا يعتق أيّ منهما لأنّه ترجيح بلا مرجح؟

احتمل بعضهم لزوم العتق و الرجوع إلى القرعة، و هذا لا نعرف له أيّ وجه، فإنّ في هذه الموارد ما لم يكن دليل على القرعة بالخصوص لا يلتزم بالقرعة بالأدلّة المطلقة، لأنّ القرعة لكلّ أمر مشكل، و ليس هنا أي إشكال إطلاقا، دلت إطلاقات الأدلّة على أن العبد لا يرث و استثنيت صورة واحدة، فلزوم الشراء و العتق على خلاف تلك الإطلاقات، و تخصيص في تلك الأدلّة، لا بدّ له من دليل، فإذا لم يكن دليل مقتضى القاعدة أنّه لا يرث.

فتبقى صورة واحدة و هو ما إذا كانت حصة أحدهما من الإرث لو فرض حرا تفي بشرائه و عتقه، و حصة الآخر لا تفي فهل الحكم مثل الأوّل و أنّهما لا يعتقان و ينتقل المال إلى الإمام عليه السّلام؟ فلو فرضنا أن الوارث عبد و أمة فحصّة العبد على تقدير حرّيتهما ضعف حصّة الأمة- و إنّما قلنا على تقدير حريتهما لأنّا قد ذكرنا أن العبد ليست له حصّة، فتكون الحصة على تقدير الحرية- و لنفرض أن المال الموجود تسعون دينارا طبعا تكون ستّون منها للعبد، و ثلاثون للأمة على تقدير حريتهما، و لكن الأمة لاتباع بثلاثين دينارا، فلا تفي حصّتها بقيمتها، و العبد يباع بخمسين أو أقل أو أكثر بستّين أو أقل، فحصته من الإرث تفي بشرائه، فهل يجب شراء العبد لأنّه على تقدير كونه حرا

حصته تفي بشرائه أم لا يجب؟

فيه كلام بين الأعلام:

اختار جماعة منهم صاحب الشرائع «1» قدّس سرّه أنّه و إن كانت حصته وافية ينتقل

______________________________

(1) شرائع الإسلام 4: 9.

محاضرات في المواريث، ص: 266

المال إلى الإمام عليه السّلام و لا يشترى، و أشكل عليه صاحب الجواهر «1» قدّس سرّه في تعبيره أنّه تلاحظ حصّته فقال أي حصّة له؟ العبد و الأمة ليس لهما حصّة حتّى يقال إنّ حصّته وافية أم لا.

و لكن معلوم أن مراده قدّس سرّه من الحصّة الحصّة التقديرية يعني إذا فرضنا أنّه كان حرا كانت حصته بذلك المقدار، فهل الحكم فيه كالحكم فيما إذا لم يكن حصة أحدهما وافية؟ أم أنّه يتعين الشراء و العتق، و الذي لا تفي حصته تنتقل حصته إلى الإمام عليه السّلام؟

لا يبعد- كما ذكرناه في المنهاج «2»- أن يكون القول الأوّل و هو العتق هو الأظهر، و إن لم يكن له نصيب بالفعل.

و الوجه في ذلك ما ثبت في محله في بحث الأصول من أن المطلق أو العام إذا دار أمره بين التقييد بالأقل أو الأكثر أو التخصيص بالأقل أو الأكثر يتعين التقييد بالأقل و لا يتقيد بالأكثر، يعني كلّ ما لا يحتمل فيه الإطلاق يخرج، و كلّ ما يحتمل فيه الإطلاق يؤخذ بالإطلاق، فإذا دار الأمر بين الأقل و الأكثر، الأقل لا يحتمل فيه الإطلاق مقيد لا محالة، و أمّا الزائد على ذلك فيؤخذ بالإطلاق.

و مقامنا من هذا القبيل- و إن كان ليس للعبد أو الأمة حصّة قبل العتق- و الوجه في ذلك أن شمول الإطلاق لمن لا تكون حصّته وافية بعتقه معلوم جزما، يعني لا يحتمل أن يجب شراء من لا تفي حصّته فيعتق و من كانت حصته

وافية لا يعتق، هذا غير محتمل، فالتقييد بالنسبة إليه معلوم لا محالة، و أمّا التقييد بالنسبة

______________________________

(1) الجواهر 39: 53، و ما بعدها.

(2) منهاج الصالحين 2: 357، مسألة (1730).

محاضرات في المواريث، ص: 267

إلى الذي يمكن شراؤه و عتقه التقييد بالنسبة إليه غير معلوم يبقى تحت الإطلاقات بأنّه مات أحد و له وارث عبد فيشترى و يعتق، هذا قابل للشراء و العتق فيؤخذ بالإطلاق.

و بعبارة اخرى: يقال إن شمول الإطلاق للآخر أي لمن لا تفي حصّته بعتقه معلوم العدم، لأنّه إذا شمله الإطلاق، إمّا أن يشمله فقط يعني يلزم عتق من لا تفي حصّته، و يبقى على الرقّية من كانت حصّته وافية.

فإمّا أن يؤخذ بالإطلاق بالنسبة إلى الفرد الآخر و يخرج الفرد الأوّل، أو أنّه كلاهما يخرجان فيحكم بعدم عتقهما معا.

التقييد بالنسبة إلى الآخر منفردا أو مجتمعا معلوم، يعني لا يؤخذ بالإطلاق فيهما معا لأن المال غير واف، و لا يمكن الأخذ بالإطلاق في الفرد الآخر فقط دون الفرد الأوّل هذا أيضا ترجيح من دون مرجّح و لا يحتمل أن يلتزم بوجوب الشراء و العتق بالنسبة إلى من ليست حصّته وافية و يبقى من كانت حصّته وافية على الرقّية، هذا غير محتمل جزما.

إذا يتعيّن الأخذ بالإطلاق بالنسبة إلى الفرد الأوّل و هو من كانت حصّته وافية فيشترى و يعتق و يبقى الآخر على الرقّية، و لذا ذكرنا أن هذا غير بعيد، و إن كان ليس له حصة بالفعل، لكن الحصّة التقديرية على تقدير العتق تكون حصّته أكثر من حصّة الآخر.

يحتمل بحسب الواقع أن يكون هذا مرجّحا فالأخذ بالإطلاق بالنسبة إلى هذا الفرد لا مانع منه.

و أمّا الأخذ بالإطلاق في الفرد الثاني فقط أو مع الفرد

الأوّل فهذا معلوم

محاضرات في المواريث، ص: 268

العدم.

إذا لا يبعد أن يكون الحكم كما ذهب إليه بعضهم من لزوم عتق من كانت حصّته وافية بعتقه، فيبقى الآخر على الرقّية.

هذا تمام كلامنا في من يكون رقّا بتمامه.

الكلام في المبعّض:

و أمّا إذا فرضنا أنّه مبعّض فالمشهور و المعروف بل المتسالم عليه بينهم أن إرثه و الإرث منه إنّما يكون بمقدار ما فيه من الحرّية، فإذا فرضنا أن نصفه حر و نصفه عبد يرث بمقدار حريته و يورث أيضا بمقدار حريته، فلو فرضنا أن للميت ولدان أحدهما حر كامل و الآخر نصفه حر فيكون ربع المال للمبعّض لأنّه يرث بنصفه لا بتمامه، فيبقى باقي المال للآخر، يعني نفرض الأخوان أربعة أنصاف ثلاثة أنصاف منها ترث و نصف لا يرث، و لكلّ نصف ربع من المال فربع النصف الذي لا يرث ينتقل إلى الأخ الآخر لأنّه حرّ.

فلو فرضنا أن الوارث ولد نصفه حر، و أخ فالولد يأخذ نصف المال، و النصف الآخر يبقى بلا وارث، فيكون للطبقة الثانية و هو الأخ و هكذا بقيّة الأمثلة.

فإرث العبد المبعّض إنّما يكون بمقدار حرّيته.

دلت على ذلك عدة من الروايات الواردة في المكاتب «1» و أنّه يرث بمقدار ما أدّاه أي بالمقدار الذي يكون معتقا، و لا يحتمل اختصاص الحكم بالمكاتب بل من جهة عتقه و لا سيّما بلحاظ هذا التعبير (أنّه يرث بقدر ما أدّاه) يعني بقدر ما هو

______________________________

(1) راجع الوسائل 26: 49 و ما بعدها باب 19 من أبواب موانع الإرث.

محاضرات في المواريث، ص: 269

معتق فهذا لا إشكال فيه.

و أمّا الإرث منه أيضا هكذا في عبارة جمع، و المحقّق «1» أيضا عبّر: «و كذا يورث منه»، يعني بمقدار حريته.

و

هنا وقع الكلام في كيفية الإرث منه، فذكر جمع أن الإرث منه يعني يورث أيضا بهذا المقدار.

فلو فرضنا أنّ نصفه حر و نصفه عبد و له مال يقسّم المال نصفين ما لنصفه الحر ينتقل إلى ورثته، و النصف الآخر للمولى بأي وجه حصل هذا المال.

فلو فرضنا أنّه حصّل المال بجزئه الحر يعني في أيّامه التي كانت مقسّمة بينه و بين المولى، هذه الأموال حصّلها في أيامه المختصّة به ما يملكه يقسّم على نسبة حريته ما يقع بإزاء حريته ينتقل إلى ورثته، و ما يكون بإزاء عبوديته ينتقل إلى المولى.

و لكن أشكل فيه جماعة منهم صاحب الجواهر قدّس سرّه «2» بأنّ ما حصّله بجزئه الحر انتقاله إلى السيّد بلا مقتض بأيّ موجب ينتقل إلى السيّد مع أنّ هذا المال إنّما حصل له بجزئه الحر؟ بل المبعّض يقسّم إرثه ما حصّله بجزئه الحر ينتقل إلى وارثه، و ما حصّله بجزئه الرق ينتقل إلى سيّده.

و الظاهر أنّ ما ذكره الأوّلون هو الصحيح.

و الوجه في ذلك: أنّ الروايات الواردة في منع العبد من الإرث لا تشمل المقام، فإنّ الموضوع هو العبد، و المبعّض لا بدّ فيه من دليل خاص في كيفية إرثه، يعني أنّ

______________________________

(1) شرائع الإسلام 4: 9.

(2) الجواهر 39: 55، و ما بعدها.

محاضرات في المواريث، ص: 270

المالك هو مجموع العبد و الحر، لا أنّ نصفا منه مالكا لمقدار و النصف الآخر مالك لمقدار آخر، المالك ليس هو نصف الإنسان بل هو مجموع الإنسان بما هو إنسان، و ما حصّله بجزئه الحر أو بجزئه العبد إنّما هو من قبيل الوساطة في العروض يعني علّة للملكية لا موضوع للملكية.

موضوع الملكية ليس الجزء الحر أو الجزء العبد، بل هو

هذا الشخص الواحد الذي هو واحد شخصي و غير قابل للتقييد، هذا واجد و مالك للمال، سبب ملكيته يختلف قد يكون ملكه بجزئه الحر و قد يكون بجزئه العبد، فهذا من قبيل الوساطة في العروض لا من قبيل الموضوع.

لا بدّ من النظر في الروايات فهي تدلنا بوضوح على أنّ إرث هذا الشخص إنّما يكون بنسبة عبوديته و حريته، ففي صحيحة منصور بن حازم في المكاتب (أنّه يرث و يورث بقدر ما أدى) «1».

فإذا فرضنا أنّه أدى نصف المال فصار حرا بمقدار نصفه، إرثه و الإرث منه يكون بمقدار ما أدّاه، يعني وارثه يرث منه النصف، و هو أيضا يرث النصف من مورثه.

و في معتبرة عمّار الساباطي يسأل الإمام عليه السّلام عن مكاتب بين شريكين، فأعتق أحدهما هذا المكاتب فصار نصفه حرا كيف يصنع هذا المكاتب؟ قال عليه السّلام:

«يعمل يوما لنفسه و يوما لمولاه»، قال: فإن مات و كان له مال؟

قال عليه السّلام: «نصفه لورثته و نصفه لمولاه» [1].

______________________________

[1] الوسائل 26: 48 باب 19 من أبواب موانع الإرث ح 4، عن عمار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في

______________________________

(1) الوسائل 26: 48 الباب 19 من أبواب موانع الإرث، ح 3.

محاضرات في المواريث، ص: 271

هذه الرواية صريحة فيما ذكره هؤلاء الجماعة من أن الإرث يكون بنسبة الحرية من غير فرق بين ما حصّله و أنّه في اليوم الذي كان له أو في اليوم الذي كان لمولاه لا أثر لذلك.

مقتضى إطلاق هذه الروايات و لا سيّما معتبرة عمار الساباطي أن مال العبد المكاتب بعد موته ينصف بأي سبب حصل هذا المال في الأيام التي كانت له أو التي كانت لمولاه فنصف لمولاه و نصف لورثته.

فالظاهر أن

ما ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه لا يمكن المساعدة عليه، بل الصحيح أن الإرث منه كإرثه من غيره فكما أن إرثه من غيره يكون بنسبة حريته، الإرث منه أيضا يكون بنسبة حريته بلا نظر إلى سبب حصول هذا المال و أنّه من أي مورد حصّله.

المولوية و العبودية و دليل الإرث يقتضي ذلك أن يقسّم بمقتضى رواية عمار الساباطي المتقدّمة.

هذا تمام كلامنا في الموانع و يقع الكلام في مراتب الإرث إن شاء اللّه تعالى «1».

و الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السّلام على أشرف الخلق أجمعين محمّد و أهل بيته الطيبين الطاهرين.

و اللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

______________________________

مكاتبة بين شريكين يعتق أحدهما نصيبه كيف تصنع الخادم؟ قال عليه السّلام: «تخدم الباقي يوما و تخدم نفسها يوما» قلت: فإن ماتت و تركت مالا؟ قال عليه السّلام: «المال بينهما نصفان بين الذي أعتق و بين الذي أمسك».

______________________________

(1) ممّا يؤسفنا جدّا عدم إتمام سماحة سيدنا الأستاذ قدّس سرّه لهذه المباحث، فهو لم يشرع في بحث مراتب الإرث بل انتقل إلى موضوع القضاء و ترك هذا البحث ناقصا.

________________________________________

خويى، سيد ابو القاسم موسوى، محاضرات في المواريث، در يك جلد، مؤسسة السبطين (عليهما السلام) العالمية، قم - ايران، اول، 1424 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.